بتاريخ 26 ديسمبر 1991، ومع تفكك الاتحاد السوفيتي وتحول النظام العالمي الجديد من نظام ثنائي القطبية (الاتحاد السوفيتي قائدة المعسكر الشرقي والولاياتالمتحدةالأمريكية قائدة المعسكر الغربي) إلى نظام أحادي القطبية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية واستئثارها بدور شرطي العالم، وما تحمله في بعض الأحيان من سياسات مزدوجة المعايير في تعاملها مع القضايا السياسية الدولية المختلفة. ومع مرور الوقت والتغيير المستمر للمشهد السياسي الدولي أدى ذلك إلى ظهور قوى إقليمية متعددة والتي بدورها أدت إلى جذب بعض البلدان الضعيفة إليها في محاولة للدعم السياسي أو الاقتصادي بما أدى إلى فرض نظام عالمي قائم على التوازنات السياسية وتوازن القوى المختلفة وإن كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية على قمة هرم القوى الدولية. بحر الصين الجنوبي وأزمة سد النهضة قد يندهش القارئ بعنوان المقال طارحًا سؤالًا مشروعًا عن مدى العلاقة بين مشكلة بحر الصين الجنوبي وأزمة سد النهضة، ولعل أسباب هذه المقالة هو إيضاح مدى تشابه الفلسفة النظرية في توصيف حالة سد النهضة مع بحر الصين الجنوبي. وسريعاُ، تعتبر مشكلة بحر الصين الجنوبي مثالًا لوضع توازنات القوى الذي أشرنا إليه سابقًا وهو قوى إقليمية كبرى (وتمثلها؛ جمهورية الصين الشعبية) في مواجهة مجموعة من القوى الأقل مجتمعة مع بعضها (وتمثلها؛ تايوان، ماليزيا، فيتنام، بروناي، الفلبين). حيث تدافع الصين عن نفسها في أحقيتها في الموارد الاقتصادية الموجودة في بحر الصين الجنوبي ومن ثم حركة التجارة أيضًا والسفن العابرة له والذي أثار حفيظة مجموعة الدول المشار إليها في الاتجاه الآخر؛ بالشكل الذي جعلها تتكتل مع بعضها مدفوعة بالتحريض والدعم الأمريكي ودول أخرى مناوئة للصين؛والذي مثل مشكلة للصين وإعاقة استخدام ثقلها الإقليمي والدولي والذي فرض عليها الحرص وعدم استخدام أسلوب الهيمنة في مواجهة مثل ذلك التكتل الإقليمي والمدعوم أمريكيًاوالذي أدى إلى تعقيد الأمور هناك. توازن القوى ما بين التشابه والتدخل الأجنبي وهنا نلقي الضوء على أن أزمة بحر الصين الجنوبي مشابه في فلسفة توازن القوى الإقليمية مع أزمة سد النهضة؛ فبالقياس نرى أن أزمة سد النهضة يتحكم فيها ليست دولة منفردة مثل إثيوبيا أمام مصر (القوة الإقليمية) ولكن إثيوبيا ومعها مجموعة دول حوض النيل الأخرى وإن كان من يتصدر المشهد الآن هو إثيوبيا في مواجهة مصر. مخطئ من يظن أو يعتقد أن أزمة سد النهضة وليدة ما بعد يناير 2011، ولكن هذا جاء ترجمة لطموحات دول حوض النيل الإحدى عشر في التنمية الاقتصادية ورفع مستوى معيشة مواطنيها. ولكنه أصبح حقا يراد به باطل خصوصًا في ظل وجود تدخلات أجنبية والتي جاءت لأسباب عديدة منها؛ انحسار الدور المصري في أفريقيا في عهد الرئيس الأسبق مبارك ومحاولات الأطراف الأجنبية في استغلال فقر أغلب دول حوض النيل في تنفيذ أجندات مناوئة لمصر. فعلى الرغم من كافة المعاهدات الدولية والاتفاقيات الإقليمية والموقعة بصورة ثنائية مع إثيوبيا أو أي من دول حوض النيل أو اتفاقيات دولية تضم دول حوض النيل وآلية تنظيم موارد نهر النيل المائية والمشروعات التي تقام عليه؛ كان مركز البحوث الهيدروليكية السوداني في وقت سابق، قدم ورقة بحثية حول اتفاقيات دول حوض النيل بشأن مياه النهر، وعددها 13، منها 8 بتوقيع قوى الاستعمار وقت احتلالها لبلاد النيل، ولخصت خلالها إلى أنه حتى الآن لا توجد اتفاقية جامعة وحاكمة بين دول نهر النيل لتنظيم شؤون النهر، وأن المستعمر كان له الدور الأكبر في وضع بنود هذه الاتفاقيات والتوقيع عليها نيابة عن دول حوض النيل، إلا أنها تظل سارية المفعول طبقًا لمبدأ التوارث الدولي، إلى أن تحل اتفاقيات جديدة محل القديمة. ومرورًا بالمعاهدات الثنائية بين مصر وإثيوبيا والتي أبرزها اتفاقية 1993 والتي تنص بعدم الإضرار بمصالحنا والتشاور عند إقامة أي مشروعات وانتهاءً باتفاقية إعلان المبادئ عام 2015 والموقع أيضًا بين مصر وإثيوبيا والتي يعد أهم مواده هو عدم الإضرار بمصالح مصر أو تعرضها لأي ضرر. ولا يمكن إغفال اتفاقية عنتيبي 2010 والتي جاءت لمحاولة حصار مصر وتغيير حصتها التاريخية في مياه النيل والتي تعتبر أول البداية الرسمية لأزمة سد النهضة؛ حيث وقعت عليها في مايو 2010 4 دول من حوض النيل حيث وقّع ممثلو إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بالأحرف الأولى على الاتفاق بعد مفاوضات منذ حوالي 10 سنوات بين الدول التسع التي يمر عبرها النهر من أجل تقاسم أفضل لمياهه، بينما أصدرت كينيا بيان تأييد للاتفاقية دون التوقيع ولم يحضر مندوبو الكونغو الديمقراطية وبوروندي. ويمكن القول أن التوتر في السياسات الخارجية بشأن مياه النيل بين مصر وأثيوبيا يرجع إلى خمسينيات القرن الماضي ، حيث انعكست العلاقات القوية بين أثيوبياوالولاياتالمتحدة سلبا على العلاقات الأثيوبية المصرية لان موقف الإدارة الأمريكية كان معاديا للسياسات القومية الاشتراكية التي كان يتبناها الرئيس(جمال عبد الناصر) آنذاك,وبدأت الولاياتالمتحدة بعمل دراسات مائية لحوض النيل ، استمرت في الفترة ما بين 1958 1965 لحساب أثيوبيا ، ووضعت تحت تصرف الخبراء الاسرائيلي وبناء على هذه الدراسات ، تابع الاسرائيليون عملية المسح الجيولوجي للهضبة الأثيوبية لاقتراح إقامة عدد من السدود على منابع نهر النيل . وتعد اتفاقية عنتيبي 2010 تطبيقًا عمليًا للتدخلات الأجنبية في دول حوض النيل وتنفيذ أجنداتهم مثل إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية والتي جاءت مع مناداة بعض المؤسسات الدولية في التسعينات من القرن الماضي إلى خصخصة وتسعير المياه. ماذا بعد الأسبوعين ... مع بداية جولة المفوضات في واشنطن في نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي عقدت آمالًا عريضة على أن يتم التوصل إلى حل واتفاق بين الدول الثلاث (مصر – السودان – إثيوبيا) إلا أن فوجئ المجتمع الدولي وإن كان ليس مفاجئًا تغيب الطرف الإثيوبي عن جلسة الاتفاق النهائي معلنة عن رفضها عن مسودة الاتفاق المقرر توقيعه. وهو الأمر الذي أدى إلى إحالة مصر ملف المفاوضات إلى مجلس الأمن لاضطلاعه بدوره ومنعه لتفاقم الأوضاع وهذا ما ذكره وزير الخارجية المصري سامح شكري وهو الأمر الذي أغضب إثيوبيا كثيرًا وهو الأمر الذي وضح على كلمتها في جلسة مجلس الأمن والتي عقدت في 29 يونيه، والذي استدعى ردًا قاسيًا من جانب وزير الخارجية المصري. هذا في الوقت التي سبقته الجلسة العاجلة لهيئة مكتب رئاسة الاتحاد الإفريقي بشأن ذات الملف والتي عقد في نفس الشهر بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والتي استقرت على أخذ أسبوعين لبلورة اتفاق نهائي ملزم للأطراف الثلاثة (مصر- السودان – إثيوبيا). ويتبقى السؤال، ماذا بعد الأسبوعين في حالة عدم التوصل لاتفاق يحفظ حقوق مصر ويلبي رغبات باقي الأطراف.. هل سنشاهد تصعيدًا جديدًا ...هل سنشاهد حربًا علنية على المياه.