اللهم ألهمهن الصبر

قالت لى والحزن يسكن عينيها وهى تتنهّد بألم شديد: «لقد هاتفنى قبل وفاته بساعة، سألنى:عاملة إيه يا ماما؟ أجبته: حاعمل إيه يا حبيبى! بحضّر لأبوك الفطار، ردّ مازحا: لا أنا بسألك طابخة إيه؟ قلت له: يعنى لو عرفت طابخة إيه حتيجى؟ قال لى: طبعا يا ماما، دا أنا أركب طيارة وأجيلك، قلت له: يلّا يا حبيبى اقفل عشان أبوك حيتخانق معايا لو ما خلصتش الفطار.
وحطيت الفطار وبعدها بشوية قلت أنام شوية، أصلى شقيانة طول النهار، فلقيت زوجى بيصحينى وبيصرخ: قومى ابنك مات، لم أصدق من هول المفاجأة وقلت له: مات إزاى ده لسه مكلمنى، أجاب: قُتل على الحدود.. اتصلت به فرد علىّ أحد زملائه يعزينى. وصرخت: يا ريتنى كلمته أكتر، يا ريتنى ما قفلت معاه، ده مقتول غدر ما لحقش ياكل مع إنه يومها وزع السمك على زمايله». من تحدثنى هى أم باسم، أحد الجنود الذين قتلوا غدرا وعدوانا فى رمضان الماضى ساعة الإفطار. سيدة تشبه الكثير من سيدات مصر المتعبات المتفانيات، تحاول أن تكون متماسكة أمامى، لكن الدموع غلبتها حتى هزمتها.
أكملت قائلة لى: «كان نفسه يتزوج وتكون له عيلة، وكنت شايفه له عروسة وناوية على العيد أسافر أخطبها له. طب حد يقول لى، يفهمنى، مين اللى غدر به وبزمايله كده؟ ليه التحقيقات ماحدش قالنا نتيجتها إيه؟» حوار امتدّ بينى وبين والدة الرقيب «باسم» أحد شهداء رفح، وأمهات أخريات لجنود آخرين. كل واحدة تبكى الضنا الذى حملته وأنجبته وربته وسهرت عليه.
كبرت وحلمت أن ترى أولاده. دموع تذيب الصخر والحجر وألم ينتقل كالعدوى إليك وأنت تنظر إليهن وتستمع إلى حكاياتهن عن أبناء كن يتمنين ألا يسبقوهن إلى الدار الحق. المشكلة ليست فقط فى الفراق، ولكن فى إحساس مرير بأن من قتل الابن يعيش طليقا سعيدا دون قصاص. وفى إحساسهن بأنهن يعشن فى دولة لا تأخذ حق أبنائها بل دمهم الذى كانوا على استعداد للتضحية به أمام عدو غاشم، تعامله برخص شديد، إذ لا تتكبد عناء معرفة من ارتكب هذه الجريمة النكراء.
أمانة أحملها لكل من يقرأ هذا المقال أن يدعو لهؤلاء الأمهات بالصبر، بأن ينزل الله من عنده بردا وسلاما على قلوبهن، وأن تقرّ عيونهن بقصاص عادل قد لا يعيد الحبيب لكنه قد يطفئ بعضا من نار أشعلها الغدر، والله وحده قادر على إطفائها.
نقلا عن "المصرى اليوم"
المزيد من أعمدة رولا خرسا