الرؤية الفلسفية الإسلامية لقضية الخلاف تجلَّت في كمٍّ هائل من النصوص والكتابات والتجارب، تأسست على قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]. وماذا عن التسامح؟، تلك الفكرة التي نُسبت إلى بعض الفلاسفة، وإن كان جوهرها وحقيقتها سبق أن أصَّلت له الشريعة الإسلامية من قبل، ومارسته التجربة الإسلامية عبر التاريخ في كثير من الحالات، ويبقى السؤال: كيف تدعم خلافاتنا الفقهية التسامحَ والتعايش والتنوع الديني والثقافي؟ لقد أصبح التسامح لبنة أساسية في بناء الأوطان، فمجتمع بلا تسامح لن تكون فيه مقومات الحياة، ووطن بلا تسامح بين مواطنيه لن يكون وطنا، وكيف يكون وطنا، والتاريخ خير شاهد على أن التعصب والتباغض المذهبي هو أكبر معوق لحياة الوطن والمواطنين. لا نريد أن نتوقف عند مجرد علاج المشكلات الناجمة عن التعصب والمتعصبين، إننا نريد أن يكون اختلافنا بابا لتماسكنا وتكامل وظائفنا ، ولماذا لا يكون اختلافنا في الخصائص والوظائف طريقا للتعاون والتكامل . ألسنا من نروي حديث النعمان بن بشير المتفق عليه ، الذي قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». كيف يكون ما بيننا من خلاف فقهي لَبِنة لترسيخ التماسك الاجتماعي ؛ سعيًا لمزيد من الاستقرار ونبذًا لكل مظهر من مظاهر التعصب والعنف؟ المذاهب الفقية المورثة مثلت تجربة رائدة في عصور واستفاد منها العالم كله، تجربة رائدة ناجحة شابها ما يشوب كثير من التجارب البشرية من أخطاء واحتياج للتجديد، ولكنها كانت وستظل تجربة فريدة، وقد أثيرت أسئلة كثيرة حول هذه القضية، ومنها: - هل اتباع المذاهب يتعارض مع اتباع الأصول الإسلامية؟ - وهل السير وراء هذه المذاهب كان أحد أدوات تعطيل الاجتهاد والإبداع لدى العقلية المسلمة؟ - وهل البناء الفكري لهذه المدارس المسماة بالمذاهب أدى إلى التعصب المذهبي؟ - وهل كانت هناك خيارات أخرى أمام عقول المسلمين بدلًا من التمسك بهذه المذاهب؟ لقد نادى –ولا يزال -كثير من الدعاة والعلماء والمفكرين بدرجة أو بأخرى إلى نبذ هذه المذاهب والتعامل المباشر مع نصوص الوحي وهذا يطرح على مؤتمرنا عدة أسئلة من نوع: - هل كانت ثمرات اللامذهبية التي طرحها بعض الدعاة والمفكرين أرجى وأدنى من اتباع المذاهب الفقهية؟ - وكيف لدعاة المذهبية أن يوائموا بينها وبين دعم الاجتهاد والإبداع ونبذ الجمود والتقليد؟ - ثم كيف أفادت النظم القانونية المعاصرة من الخلاف المذهبي؟ ونحن نتذكر أن عملية الاختلاف الفقهي في التاريخ الإسلامي على قدر ما حفت بمنظومة راقية من الأخلاق والقيم والآداب، لكنها لم تخل في قليل منها ممن تخلى وقصر. وإدراكا لواجب الوقت رأت الأمانة العامة لدور الإفتاء في التعالم عقد مؤتمر ينطلق المشاركون فيه إلى تدارس أهمية الجانب الأخلاقي والقِيَمِي في معالجة قضية الخلاف، ويكون السؤال: ما القيم الحاكمة لعملية إدارة الخلاف الفقهي؟ وما مؤشرات جودة سَيْر عملية الخلاف الفقهي؟ وما المعايير التربوية التي ينبغي وضعها لتأصيل إدارة الخلاف الفقهي؟ وهنا لا بد أن نتذكر بكل فخار هذا الميثاق الذي مثل آداب مهنة الإفتاء وقرن الجانب الخلقي بالجانب الفقي وكان ثمرة يانعة من ثمرات مؤتمر العام الماضي، ، وهو عبارة عن مدونة شاملة لأخلاقيات مهنة الإفتاء مترجمة إلى عدة لغات، وذلك في ختام أعمال المؤتمر العالمي الرابع للإفتاء. وكان من اللازم البدء في تصنيف هذا المرجع العام الشامل الذي يبدأ بركنين أساسيين من العملية الإفتائية في ظل التطور الحضاري المعاصر، وهما: المؤسسة، وما ينبغي أن تحويه هذه المؤسسة من متصدرين للإفتاء يُمثلون الأساس الأكبر للعملية الإفتائية. وننتظر هذا العام أيضا إصدارا لوثيقة التسامح الفقهي والإفتائي لتكون مع الميثاق تجديدا لاقتران الآداب والقيم بمجال الإفتاء بأفراده مفتين ومستفتيين ومؤسساته من دور الإفتاء وهيئاته، وليكون التسامح بحق قيمة عمل يسري في إعلامنا وقوانيننا ومجتمعنا. ونحن نعتقد أن ما يقدم إلى المؤتمر من أبحاث يعالج هذا الأمر عبر عناوين عديدة نذكر منها: 1- نحو نظرية كلية لإدارة الخلاف الفقهي. 2- ثقافة التسامح: مدخل لإدارة الخلاف الفقهي. 3- الاختلاف البشري اختلاف تنوع أم اختلاف تضاد / رؤية حضارية. 4- دور الخلاف الفقهي في مواجهة التشدد. 5- صور التسامح والتراحم بين المذاهب الفقهية عبر التاريخ. 6- منهجية المذاهب الفقهية في إدارة الخلاف الفقهي. 7- الخلاف الفقهي بين الانضباط والتفلت. 8- المذاهب الفقهية والنظم القانونية العالمية – التأثير والتأثر. 9- العلاقة بين الخلاف الفقهي والحكم القضائي بقواعده. ننتظر من المؤتمر الذي تعقده دار الإفتاء المصرية عبر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم أن يفيدنا بإجابات وافية وحلول ناجعة لهذه المشكلات. Attachments area