تحت وطأة أزمة العدالة الجنائية، التي تعاني منها الدول اتجهت السياسة الجنائية الحديثة إلى نظام الصلح الجنائي، بعد أن فشل العقاب التقليدي في مكافحة الظاهرة الإجرامية الاقتصادية المتزايدة. وبالتالي يمكن القول بأن الصلح الجنائي أصبح جزء من تطور الإجراءات الجنائية نحو تحقيق فكرة العدالة الجنائية وهي عدالة شرعية تخضع لنصوص التشريع، لذلك اتجه الفقه والتشريع الحديث إلى الأخذ بنظام الصلح الجنائي و خصوصًا في الجرائم الاقتصادية، نظرًا لسرعتها وعجز القضاء عن التصدي لها، لذلك كرست التشريعات الاقتصادية الصلح في هذا النوع من الجرائم. تطورت المجتمعات البشرية في مختلف الميادين، خاصة الميدان الاقتصادي، فبات يشكل النشاط الاقتصادي ، فلم تعد الدولة قادرة على الوقوف مكتوفة الأيدي أمام كل هذه التغيرات والتطورات لذلك فقد تدخلت الدولة في الحياة الاقتصادية بشكل كبير من أجل حماية الأنشطة الاقتصادية وضمان حسن تنفيذ خطط التنمية . التي تضعها،وتهدف بها تحقيق الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية لشعوبها ونتيجة لذلك كان لا بد للقانون الجنائي من دخول الميدان الاقتصادي كوسيلة للوقاية من سلبيات هذا الميدان، خاصة وأن الاعتقاد السائد كان يرى أن الحماية التي توفرها فروع القانون الأخرى كالقانون المدني ذات مردود ضعيف، وبالتالي يبقى القانون الجنائي وحده بفضل قائمة عقوباته الرادعة قادرًا على معالجة مثل هذا النوع من الجرائم ، لذلك أصدرت العديد من دول العالم الكثير من التشريعات الاقتصادية تضمنت جزاءات رادعة، لتكفل احترام القوانين الاقتصادية التي سنتها، وقد أسفر هذا التدخل عن خروج المشرع عن الأحكام العامة في قانون العقوبات ومن ذلك اتساع نطاق التجريم وشمل ذلك قاعدة انه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، إذ تخلى المشرع عن التجريم بقانون ولجأ إلى ذلك عن طريق اللائحة. وانطلاقا مما سبق دخل القانون الجنائي في الميدان الاقتصادي ، وتم تجريم العديد من الأفعال المتعلقة بالتنظيم الاقتصادي، مما دفع بالحديث عن بدء نشوء فرع جديد هو قانون العقوبات الاقتصادي والجرائم التي نحن بصددها بالجرائم الاقتصادية ولو لم يكن من ثمار الصلح إلا أنه سببٌ لإبراء ذمم أطراف النزاع وإنهاء الخصومة بحكم قطعي لكان ذلك كافيا، يستند الصلح في التشريعات الاقتصادية إلى مبدأ الرضائية، فلا بد من موافقة المخالف حتى يمكن إجراء الصلح والجهة الإدارية المختصة، فض ً لا عن موافقة النيابة العامة في بعض الأنظمة القانونية الأخرى ، ويخضع الصلح الوارد في الأنظمة الاقتصادية دومًا للسلطة التقديرية للجهة الإدارية، فلها أن تقبل الصلح أو ترفضه. فالصلح لا يمكن أن يفرض على الإدارة من المخالف ويجب لإتمام الصلح أن يكون هناك اتفاق بين الطرفين ، ولا يترتب الأثر الذي يقرره القانون بمجرد عرض الصلح من جانب المخالف دون أن يقابل ذلك قبو ً لا من الجهة الإدارية المختصة ، وفي هذا المعني قررت المحكمة الإدارية العليا في مصر ( أن التصالح يقع في نطاق الملائمة التقديرية للإدارة، دون تعقيب عليها من قبل أي جهة قضائية) ، كما أن الصلح ليس حقًا للمخالف فلا يلزم الإدارة المختصة بالإيجاب إذا . طلبه وعلى أية حال فإن السلطة الإدارية المختصة بإبرام الصلح ليست ملزمة بقبول الصلح، فلها أن توافق عليه أو لا توافق، فليس هناك نص يلزمها في ذلك، كما أنه لا يمكن فرضه على الإدارة أو المخالف، إلا أنه يجب على الجهة الإدارية المختصة أن تتوخى المصلحة العامة في قبول أو عدم قبول الصلح، ولتحقيق الغاية من تجريم هذا النوع من الجرائم لا لتحقيق مصالح شخصية لبعض موظفي الإدارة. فقد أثار تجدد قضية التصالح مع رجال الأعمال والمسئولين من النظام السابق المتهمين بالفساد جدلًا في الشارع الاقتصادي، خصوصًا بعدما عرض أحمد عز وحسين سالم ونجليه -الذين يحاكموا فى إسبانيا للمرة الثانية- علي الحكومة من جديد رد جميع أموالهم مقابل العفو عنهم. فقد نري أن البنك المركزي المصري في يده مفتاح الحل لهذه القضية التي تمثل لغز شديد لدى الرأي العام عن تهريب أموال رموز الفساد في النظام السابق إلى الخارج وعلى رأسهم أموال أسرة مبارك. أن دفاتر البنك تكشف حركة دخول وخروج هذه الأموال منذ عشرات السنوات، حيث أن اتفاقيتي مكافحة غسيل الأموال والإرهاب تحتمان على البنوك المركزية في شتى دول العالم إتباع ذلك، إضافة إلى أن موظفي "المركزي" في إدارتي مكافحة غسيل الأموال والإرهاب لديهم معلومات تفصيلية عن حركات تهريب هذه الأموال لكنهم يفضلوا الصمت، وعدم نبش هذه الأسرار إلا من خلال مخاطبات ومكاتبات رسمية من النيابة العامة أو بقرار جمهوري ملزم إلى محافظ البنك المركزي بتقديمها. للان هذه الحركات بأنها بمثابة مواسير لتمرير الأموال المغسولة إلى الخارج., أن معظم حسابات المصرف العربي الدولي قبل الثورة، وحتى وقت قريب كانت تهرب إلى الخارج من خلال حسابات تأخذ أرقام سرية تحول من البنوك العامة الكبرى إلى هذا المصرف، وهى بالطبع تخص كبار المسئولين الفاسدين في النظام السابق من بينها حسابات أسرة الرئيس السابق. وطالب الرئيس محمد مرسى بإلزام محافظ البنك المركزي بإصدار تقرير رسمي عن حركة الحسابات التي تم تحويلها من البنوك العامة إلى المصرف العربي الدولي الذي كان يعد بابًا خلفيًا لتهريب هذه الأموال طوال ال10 سنوات الماضية قبل رحيل مبارك. أما على مستوى رجال الأعمال. فنرى أن التصالح مع هؤلاء خصوصاً ممن لم تدينهم النيابة العامة في قضايا قتل أو إصابة الثوار والمتظاهرين أمر ممكن أن الحالة الاقتصادية متدهورة، واسترجاع هذه الأموال يساهم في إنعاش الحالة الاقتصادية بل سيساعد مصر في الاستغناء عن قرض صندوق النقد الدولي وشروطه والفوائد التي ستفرض عليه. أن رجال الأعمال أو الفاسدين الذين تورطوا في شراء أراضى الدولة بأسعار "بخسة" أو ممن حصلوا على مميزات وحقوق غير مستحقة لهم يمكن التصالح معهم . إن تصالح الدولة في قضايا الدم مرفوض وأن الطلبات التي تقدم بها البعض من هؤلاء الفاسدين للتنازل عن كل أموالهم يحاط بها حالة من الجدل والشك، وإذا كانت الحكومة لديها النية لتقبله فلابد من تعديل تشريعي للقانون الحالي، أن المشرع في القانون الجنائي قصد من عدم التصالح في قضايا الدم أخيرا نقول :- فالقانون المصري من بعد تعديله من قبل المجلس الاعلي للقوات المسلحة حينذاك علي الآتي فالمادة 7 مكرر تتيح التصالح مع المستثمر في جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر التي ترتكب منه بصفته أو بشخصه أو التي اشترك في ارتكابها، ويجوز التصالح في أية حالة تكون عليها الدعوى الجنائية قبل صدور الحكم البات فيها (حكم النقض) .وترتكز شروط التصالح على فكرة رد الأموال، والأهم من ذلك هو آثار هذا التصالح فالمادة تؤكد على “.. ويترتب على تمام التصالح انقضاء الدعوى الجنائية بالنسبة للمستثمر, ولا يمتد الانقضاء لباقي المتهمين معه في ذات الواقعة ولا يستفيدون منه." وهكذا جاء النص ليجعل من المستثمر ملكا متوجا يرتكب ما يشاء من جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه فى ظل نشاطه الاستثماري، ويستطيع أن يستعين بمن شاء وإن اكتشفت جريمته فالتصالح والإفلات من العقاب سهل وبسيط بالنسبة له أما الشركاء ممن لا يحملون صفة المستثمر فلهم الجحيم وعليهم العقاب. أما المادة 66 مكرر فإنها تتيح لرئيس مجلس الوزراء إصدار قرار بتشكيل لجنة لتسوية المنازعات التي تنشأ عن العقود المبرمة بين المستثمرين والجهات التابعة للدولة، وتكون مهمتها بحث ما يثار بشأنها من منازعات بين أطرافها تتعلق بالعقود المشار إليها، وذلك من أجل تسويتها على نحو يضمن الحفاظ على المال العام ويحقق التوازن العقدي، وفي حالة وصول اللجنة مع الأطراف إلى تسوية ودية نهائية تكون تلك التسوية واجبة النفاذ وملزمة بعد اعتمادها من مجلس الوزراء. فماهى هذه اللجنة، ومن هم أعضائها، وما هى معايير تشكيلها، وما هى القواعد الحاكمة لأعمالها. وما هى ضمانات حمايتها للمال العام، وما هى شروط إعادة التوازن العقدي للعقود الإدارية؟.. هي أسئلة بدون أجوبة. كما لم يتم النص حتى على اشتراط عدم مخالفتها لأحكام القضاء واجبة النفاذ، وهو ما سيتيح لهذه اللجنة العمل دون أى ضوابط موضوعية، ويفتح لها الباب لإهدار نصوص القانون السارية، وكذلك إهدار قواعد المساواة وتكافؤ الفرص. وقد رأى المشرع في إقرار الصلح في القانون الجنائي الاقتصادي ما يتوافق مع طبيعة الأضرار المتأتية من الجرائم الإقتصادية. وإن إجراء الصلح وفق مبدأ الجدوى المالية من شأنه أن يحقق موارد مالية مستوجبة للإدارة هذا فضلا عن الموارد المالية الإضافية المتأتية من الجرائم الاقتصادية المقترفة إذ يُحمل المخالف بموجب الصلح على دفع تلك المبالغ لصالح الإدارة المالية مع كل ما يتعلق بها من خطايا جبائية أو جزائية، وتتحقق الجدوى المالية في هذا الإطار من خلال المصادرة والمبلغ الصلحي. وفي أغلب الحالات تكون المصادرة مزيجا بين العقوبة والتعويض أما المبلغ الصلحي فإنه يعتبر من بين الموارد المالية الإضافية التي تحققها الإدارة بفضل الالتجاء إلى الصلح ولكن التطبيقات الإدارية رفضت تجاوز الحد الأقصى للخطية المنصوص عليها لمثل تلك الجريمة. ولاغرو أن الإدارة بقبولها إجراء الصلح تحقق لنفسها موارد مالية هامة الشيء الذي جعل الفقهاء يصفونها بالعملية التجارية المربحة تفرضها الضرورة لإدارة مهام القضاء بطريقة متطورة.