كنت أظن أنني الوحيد على وجه البسيطة من كل البشر يصيبني هذا العارض الذي أرجعته لحالات الوسواس القهري المزمن لدى الكثير من المصريين والتي تجعل من تكرار أمر بشكل مستمر عارضا أساسيا لهذا " المرض " غير أن مقالة سابقة لاستاذي أنيس منصور جعلتني أكتشف أنني لست الوحيد في هذا الأمر بل فقط واحد من سلسلة من " المتنورين " والذي شائت أعراض ذلك الوسواس في كتابة وتدوين كل " مليم " أصرفه على أي شئ يوميا خلال أكثر من عشر سنوات ماضية على الأقل وبدون أي إنقطاع . ووصل بي الأمر الى عمل جداول حسابية " معقدة " لقياس مدى إرتفاع الأسعار وتغير سلوكي الشرائي خلال تلك الفترة ومقارنتها هي الأخرى بإرتفاع الأسعار والتضخم الحاصل ، وكم إستمتعت " بتقفيل " حساباتي الشهرية وتقسيمها الى ثمانية أفرع رئيسية – حسب تقيمي للأمر – بداية من الأقساط الشهرية الملتزم بها كمثل ملايين المصريين التي بنيت حياتهم الشخصية و" طموحاتهم " الحياتية على إنتهاج النظام الأمريكي المعروف بالشراء بالقسط والذي يوصف في الأدبيات الأمريكية بإن " المواطن الأمريكي يولد ويعيش ويموت مدينا للأخرين " . وصارت العادة الحياتية لشراء أي سلعة أساسية أو رفاهية سهلة بنظام التقسيط الميسر حتى لو كنت تمتلك كامل قيمة تلك السلعة ، فهذا النظام يضمن لك شراء أكثر من سلعة في وقت واحد وتأجيل دفعها الى أقساط شهرية منتظمة يتم تقديرها من طرفك وحسب مدخلاتك المالية ودخلك الشهري ، وكم إختلفت كثيرا على سبيل المثال مع والدي في الإختيار بين هذا النظام الذي أفضله وبين نظام دفع القيمة بالكامل والتي يفضلها والدي والذي ينتمي بالطبع الى عصر كان التليفون الأرضي يدفع قيمته بالكامل وبالحجز قبل تركيبه " المشهود " في المنازل بعد عام أو عامين من " حجزه " لدى الباب العالي في وزارة الإتصال وعبر السنترالات والتي كانت في الماضي تشهد أكبر مثال على نظام الوسطة والدفع من تحت التربيزة ؟؟ وعلى هذا النظام التقسيطي الذي إخترته أستطعت إمتلاك السيارة والمنزل والشالية وتطور الأمر ليشمل أقساط التعليم للأولاد في مدارس خاصة بنيت على نظام التقسيط التعليمي كما أضفت الى هذا القسم الهام في نظام حياتي – وربما حياة الكثيرين غيري من المصريين – فواتير الكهرباء والماء والغاز والتليفون الثابت وإشتراكات الكابل الفضائي والإنترنت وأقساط النادي الإجتماعي وغيره من المتطلبات التي تلزم دفع مبالغ ثابتة أو متغيرة شهريا لأكتشف أنها تنفرد بصرف أكثر من 25% من مجموع النفقات الشهرية لي وهو رقم حاولت لسنوات عديدة أن أكبح جماح نموه بدون فائدة لأن الخط الفاصل بين تعريف السلعة الاساسية و الترفيهية قد تلاشى مع الأيام ، فلم تصبح السيارة من السلع الاستفزازية في عالم بعدت فيه المسافات بين العمل ومحل الاقامة بل أصبحت واحدة من مقومات الحياة وبدونها ستكون التكلفة أكبر لو حسبت " توصيل الأولاد " صباحا الى المدرسة وإصطحابهم أخر النهار منها والذهاب الى العمل والمجئ منه والتحركات المسائية لتلبية متطلبات المنزل و خلافه . ولم يصبح إمتلاك منزل صغير أو شاليه متواضع في أحد المدن الساحلية أمرا يدخل ضمن الرفاهية لو حسبت فقط تكلفة إمضاء أسبوع واحد سنويا مع عائلتك في أجازة " مصيف " قصيرة وسعيدة حتى لو كانت في جمصة أو راس البر أو حتى الذهاب الى الاسكندرية ناهيك عن " الشطط "الذي يمكن أن تراه في معدلات إنفاقك لو " تجرأت " بالتفكير في إمضاء تلك الإجازة في الساحل الشمالي أو أحد "البورتوهات " أو منتجع خاص ، أو الإشتراك – لا قدر الله – في نظام التايم شير ، وسيصبح إمتلاك ملاذ أمن لك في أحد القرى السياحية الجديدة أو المدن الساحلية الإختيار الأنسب والأرخص – وإسمع كلامي – وتصبح عملية التقليل في تلك البنود تابعة لشطارتك في "المفاصلة " والحصول على أفضل سعر ، ويحتل قسم الطعام وشرائه فصلا كبيرا في سلسلة مصارف المصرين الشهرية ويلتهم ضمن ميزانيتي ما يقرب هو الأخر من 25% منها. وكنت أعتبر نفسي دائما من المقلين في شراء السلع الغزائية الاستفزازية والتي تضم قائمة طويلة من الاسماك المستوردة والعيش الفرنسي – وارد بلاده – والمعلبات الامريكية والاسيوية والاجبان التي تدلل بقراتها في مراعي الدنمارك والفواكه والخضروات الغالية و" الاورجنيك " ، وأكتفى بمتعة التسوق في "الهايبرات " ذات أسعار الجملة والعروض الحصرية والتي يقضى فيها المواطن المصري أغلب وقته الباحث عن سلعة جيدة وبسعر رخيص وتقدم لك رغم سعرها الرخيص نسبيا فاتورة متضخمة تجدها أمامك وأنت على " الكاشير " تقارن بين عدة مئات من الجنيهات مطلوب منك تسديدها وبين بعض الأجبان " الرخيصة " والألبان والبيض الأبيض التي إشتريتهم " مضطرا " على بعض الدجاجات المجمدة من العرض الخيالي الذي وجدته في الهايبر وبضعة كيلوجرامات قليلة من اللحم المفروم تعويضا عن شرائك له كاملا من الجزار المزدحم دائما بالافواه المفتوحة والبطون التي لا تشبع أبدا. وكم هالني مقارنة أسعار السلع الغزائية في مصر وبين الدول الأخرى ويكفي أن أقول لك أن ثمن العجل الاسترالي وقت الذبح في بلاده يصل الى 400 دولار تقريبا بينما يصل ثمنه في مصر الى الاثنتى عشر الف جنيه مصرى ولا حول ولا قوة الا بالله ، وجعلني أتحسر على سنوات كنت قد قضيتها في السعودية كان فيها شراء " أقفاص " الفاكهة من تفاح وموز وجوافه أقل من ربع ثمنه في أسواقنا العامرة ؟؟ ، وقمت بضم أي " عزومة " غذاء الى هذا القسم معترفا بإنني أكتفي بواحدة فقط شهريا خارج المنزل بعد أن كانت خلال السنوات الماضية أكثر من ذلك ، وأصبح " الميني مم " هاجسا لدى كثير من المصريين لدرجة أنني غادرت ذات مرة مطعم أنيق أنا وزوجتي وأولادي بعد أن إكتشفت أن جلوسنا على مرجيحة إجبارية على مائدة الطعام يكلف لوحدة ما يقرب من 200 جنيه ؟؟- حتى أنني حسبت وقتها أن التأرجح لمرة واحدة ذهابا وعودة قد كلفني جنيهين كاملين في الثواني العشر الذي جلست فيها مأسوفا في هذا المكان ، ناهيك على أن الدخول – وأيضا مضطر – الى حمام المطعم وإستخدامه كلفني عشر جنيهات كاملة ؟؟ ، فإكتفيت هذه الأعوام للذهاب الى مطاعم معروفة وأنيقة تقدم خدماتها بإسعار ليست " إستفزازية " ويوازي ما تدفعه فيها تقريبا ما يمكن أن تدفعه في " غدوة " في منزلك المتواضع . وإذا عدت الى تقسيماتي " اللوزعية " لمعدلات الإنفاق الشهرية لي وجدت أن قسما " مصريا " قد إبتكرته لما يسمى بالمخصصات الشهرية وهي تشمل " المصروف " اليومي للأبناء والمنزل ، مترحما على الأيام التي كان فيها والدي يغدق على بنصف جنيه كامل وأنا ذاهب الى مدرستي الإبتدائية والتي كان ثروة وقتها تمكنني من شراء عدة حاجيات " وحاجة حلوة " أو " تحويشها " أسبوعيا لشراء كتاب أو مجلة تعودت على مطالعتها ، بينما أرمق تلك النظرة الساخرة الأن من أولادي بسن السادسة والخامسة وهم يتململون وأنا محرجا أضع في أيديهم كل صباح خمسة جنيهات – يا كفرة – ويعودون منتفخى العيون حمراء من البكاء أنها لم تكفهم لشراء أي شئ من كانتين المدرسة ؟؟ فيما إستقر الرقم الذي إخترته ليكون ممثلا لقسم خاص بكروت الشحن لأرقام هواتفي للثلاث شبكات الرئيسية بعد إستبدالي من أكثر من عامين نظام الفاتورة الى كروت الشحن المدفوعة مسبقا والتي كانت تصيبني بالحازوقة – الزغطة يعني – كل شهر وأنا أتسلم قائمة من عشرين صفحة بأرقام لا أعرف هل تحدثت اليها أم ماذا ، أما الجدول الذي إخترته لشراء وقود السيارة والصيانات " الإلزامية " أو الطارئة لها فحدث ولا حرج ، رغم ثبات سلوكي القيادي وعدم تغيره لفترات طويلة ناهيك عن الإنتظار الإجباري بالساعات أمام محطات الوقود للحصول على حصة يقال أن أسعارها ستشهد زيادة بعد عدة أيام بسبب طلبات من صندوق النقد الدولي ؟؟ ، أما ما أسميته في جدول التدفقات النقدية الخاص بحالتي "المرضية " من الوسواس القهري المزمن بكتابة أي مخرجات مالية من " محفظتى " البائسة فكان قسمين كثيرا ما أصاب زوجتي بنوبة من الضحك المتواصل والأسئلة الساخرة عن كنهها وهما قسمي " المنزليات " و" النثريات " وهما من أكثر الأقسام التي تلتهم ميزانيتي الخاصة وتصل الى 30% منها شهريا وهي تضم كل المشتريات الخاصة بالمنزل شهريا مما ليس محسوبا على الطعام والشراب ويتضمن أيضا الأجهزة الكهربائية التي تجدد بإستمرار ممل وتصليحها وشراء الملابس والمستلزمات المنزلية الأخرى وكذلك المصاريف الإستثنائية الغير متوقعة والتي أصبحت من خلال خبرتي السابقة " متوقعة " ومنطقية ولا يمكن الإستغناء عنها ، وأخيرا يأتي قسم خاص بالتواصل الإجتماعي والعائلي والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال الإستغناء عنه وهو " الهدايا " التي تتنوع بين ورود عيد الحب وأعياد الزواج و" المصالحات الزوجية " المستمرة ، مرورا بهدايا عيد الميلاد للزوجة وكامل عائلتها والام والاب والأخوة والأبناء وكامل الأقارب حتى الدرجة الثانية ؟؟ ووصولا بالمناسبات الخاصة والهدايا " الإلزامية " لأعياد الأم والأب والعائلة مما يجعلها تحتل بجدارة مركزا متقدما في قائمة الأكثر أقساما لإلتهام ميزانيتي وبالطبع ميزانية أي مواطن مصري لا يريد أن يكون " مقطوع من شجرة " . ذكرتني تلك الأرقام بسؤال " برئ " توجهت به الى صديق – منه لله – قبل زواجي من عدة سنوات عن المصاريف الشهرية المتوقعة " لفتح بيت " شهريا ، فأجابني مبتسما – لا سامحه الله – وهو يربت على يد زوجته الحبيبة بأن مبلغ الالف جنيه ونصف شهريا يضمن " عيشة معقولة " على حد وصفه ، مختتما تأكيداته الرقمية بجملة " توكل على الله " ، ومازلت حتى الأن أبحث عن هذا الصديق " الصدوق " ليدفع لي الفرق الذي وصل الى أكثر من أربعة أضعاف هذا الرقم الذي طمأنني به وقتها ، الا أنه غير أرقام هواتفه ومحل إقامته الى الأبد ؟؟ .