لم يعرف التاريخ الكثير من الزعماء الذين تتمتع سيرهم بشبه إجماع على نقائها مما يشين أصحابها؛ فقلائل هم الذين حافظوا حتى النهاية على التزامهم بالمبادئ في عالم يحكمه مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وفي عالم السياسة بالذات كثيرًا ما يتحول الأمر إلى "الغاية تبرر الجريمة". ولعله لو كانت هناك قائمة للزعماء الأكثر أخلاقية وفضلًا في إرساء السلام ببلادهم، لما اختلف اثنان على وضع اسم الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا - الذي يحتفل العالم اليوم بالمئوية الأولى لمولده - ضمن أوائل المدرجين بها، على ما في سيرة الرجل من غرابة وتباين واسع، بين المناضل الذي حمل السلاح شابًا دفاعًا عن الحرية والمساواة، وذلك الشيخ الذي خرج من سجن التهم ثلث عمره، داعية سلام وتعايش حتى مع من حمل السلاح ضدهم ذات يوم. لكن من بين ما يستلفت النظر في سيرة مانديلا، الذي تحرر من سجنه عام 1990 ليغدو أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا بعد زوال نظام الفصل العنصري في 1994، ظل مدرجًا على قوائم الإرهاب في الولاياتالمتحدة حتى عام 2008. مجلة "تايم" الأمريكية تروي القصة بالتفصيل: كيف كان الوضع في جنوب أفريقيا إبان شباب مانديلا؟ وكيف أثرت الحرب الباردة على ملابسات النضال ضد الفصل العنصري بين البيض والسود؟ والأهم من ذلك: لماذا كان مانديلا إرهابيًا في نظر الولاياتالمتحدة؟ الجذور.. حزب المؤتمر إن التاريخ الحديث لجنوب أفريقيا هو تاريخ النضال ضد التمييز العنصري بين المستعمرين البيض من الإنجليز والهولنديين وبين المواطنين السود سكان البلاد الأصليين. في هذا السياق نشأ حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" عام 1912 حاملًا لواء مقاومة الفصل العنصري، وإن اتُخذ قرار مبدئي بالالتزام الصارم بوسائل المقاومة السلمية مثل الإضرابات العمالية ومقاطعة الوظائف الحكومية، دون الانخراط في أي عنف مسلح، وحافظ الحزب على هذا الالتزام لعقود طويلة. خلال سنوات الأربعينات، انتسب المحامي الشاب نيلسون روليهلاهلا مانديلا إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، كعضو مؤسس للتنظيم الشبابي بالحزب، وصعد في صفوفه حتى تولى رئاسة فرع الحزب بمنطقة الترانسفال جنوبي البلاد، وألقي القبض عليه أكثر من مرة بتهمة إثارة الفتنة، وإن لم ينخرط في أي نشاط عنفي وقتها. لكن تحولًا جذريًا وقع إثر مذبحة ارتكبتها قوات الشرطة عام 1960، قتلت خلالها 69 من المحتجين السود في مدينة شاربفيل جنوبي العاصمة الإدارية جوهانسبرج، وفي إطار حملة قمع أعقبت المذبحة حظرت السلطات نشاط حزب المؤتمر الأفريقي. تحول الحزب بعدها إلى حركة سرية، واتخذ قرارًا استراتيجيًا بالتحول إلى النضال المسلح ضد الحكومة البيضاء، ووقع الاختيار على مانديلا ليقود الجناح المسلح للحزب، الذي عُرف باسم (رمح الأمة)، لكن السلطات تمكنت من اعتقاله، وحوكم عام 1964 وأدين بتهمة التخريب والخيانة. المعسكر الخطأ كأي حركة سرية مسلحة، راح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يبحث عن دعم خارجي لقضيته، ومصادر للتمويل والتسليح، وقد وجد الحزب تأييدًا لا بأس به في الدول الاسكندنافية، لكن الأهم أن الاتحاد السوفيتي قرر مساعدة الحزب بالأموال والسلاح والتدريب. في ذلك الوقت من عقد الستينات، كانت الحرب الباردة في أوجها، بين المعسكر الشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدة، وبالنسبة للأخيرة كان يكفي أن يتعاون أي حزب أو فصيل في أي مكان في العالم مع السوفيت كي تصنفه كعدو، بغض النظر عن جوهر قضيته. في هذا السياق رأت الولاياتالمتحدة أن نيلسون مانديلا كان يقف في "الجانب الخطأ من الحرب الباردة"، حلى حد تعبير المؤرخ روبرت ترينت فينسون، وهو ما دفعها إلى تصنيفه كإرهابي. لكن اسم نيلسون مانديلا، الغائب وراء القضبان، اكتسب شهرة عالمية كرمز للنضال ضد التمييز العنصري، بالتزامن مع تحولات جذرية في فكره باتجاه نبذ العنف والدعوة غلى التعايش السلمي بين مختلف الأعراق. مبادرة السلام ذات يوم من عام 1986، أرسل مانديلا خطابًا من داخل محبسه إلى حكومة جنوب أفريقيا يدعوها لخوض حوار حول مستقبل البلاد، وكانت المفاجأة أن رئيس البلاد آنذاك بي دبليو بوثا المعروف بتشدده العنصري، استجاب لمبادرة مانديلا، بعدما شعر أن بلاده مقبلة على كارثة، وتم ترتيب لقاء بينهما بمقر إقامة الرئيس في كيب تاون عام 1989. في العام التالي مباشرة لهذا اللقاء، انتهى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأُفرج عن مانديلا، ليتم انتخابه عام 1994 كأول رئيس أسود لدولة يتمتع جميع مواطنيها من البيض والسود بحقوق متساوية. لكن مع ذلك، ظل أعضاء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بحاجة إلى تصاريح خاصة لدخول الولاياتالمتحدة، وكانت وزارة الخارجية الأمريكية تصدر تلك التصاريح على أساس كل حالة على حدة. وفي أبريل 2008، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس بأن الوقت حان لرفع تصنيف أعضاء حزب المؤتمر كإرهابيين وإلغاء حظر استقبالهم في الولاياتالمتحدة، وفي يوليو من العام ذاته وقع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش قانونًا بذلك، لكن مانديلا كان قد أعلن قبل 4 سنوات، في عام 2004، اعتزاله العمل العام. وقالت مجلة "التايم" أن التبرير الرسمي الذي كانت الولاياتالمتحدة ترد به على أي سؤال حول تأخر تلك الخطوة هو أن "التعقيدات البيروقراطية" كانت تحول دون الإقدام عليها، هكذا ظل واحد من أبرز دعاة السلام والتعايش في العالم مصنفًا كإرهابي في الولاياتالمتحدة، حتى بعد 18 عامًا من الإفراج عنه وتوليه رئاسة بلاده.