لا شك أن جميع الأمة المحمدية تكمن فى عقيدتها وتتمكن من سويداءات قلوب معتنقيها محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا مما لا شك فيه. غير أن حادثة الفاروق عمر رضى الله تعالى عنه والتى أوردها البخاري فى الصحيح 148/ 4 وابن أبي شيبة فى مصنفه 7/432 وكذلك الخطيب البغدادي فى تاريخ بغداد 4/401 . أنه رضي الله عنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو آخذ بيده: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، وقال عمر رضي الله عنه لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك. ومعنى قوله عليه السلام لعمر ''الآن يا عمر''.. يعنى الآن كَمُل إيمانُك يا عمر كما وضحه كثير من العلماء وكما يتضح من السياق. والإشارة واضحة جلية، حيث إن مورد الحديث حسب موقفه وواقعته عن تلك المحبة الذاتية الخالصة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤكده ما روى عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". وفي رواية لمسلم: "حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين". وبنحوه ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة . والحديث أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري في - كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان-، وأخرجه النسائي في -كتاب الإيمان باب علامة الإيمان- وأخرجه ابن ماجه. فتُعد محبة النبى الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم لذاته لا لكونه نبى مرسل من قبل الله تعالى دين، وتعد تلك المحبة مُتضمَنة فى عقائد المسلمين. بل إن من المسلمين من يتفننون فى محبته كل على حسب فهمه لعقيدته بغض النظر عن أصوله الاعتقادية وسواء اتفقنا مع تلك الأصول أو اختلفنا. المهم أن تلك المحبة كامنة فى معيار صحة الإيمان من عدمه حسبما رأينا فيما ذكرناه. وكيف لا تكون تلك المحبة الذاتية محققة الوجود فى قلوب المؤمنين لشخصه العظيم؟ وهو الذى كان همه الأكبر وشغله الشاغل هو تلك القلوب وما أبعد من ذلك. فهو الذى أرسله ربه رحمة للعالمين وينبئك عن صدق هذا تلك الجنازة التى مرت من أمامه، والتى كانت ليهودى، وما إن لبث حتى استقام لها واقفًا مما أدهش من كان معه من صحابته الكرام الذين أخبروه بأنه يهودى فقال صدقًا ومصداقًا لمنتهى رسالته التى هى رحمة للعالمين بقوله: ''أليست نفسًا'' بل وقال أيضًا فيما معناه "نفس أفلتت منى" ولما لا وهو الرحمة المهداة والنعمة المزداة. وتلك هى المحبة الذاتية التالية لمحبته الاتباعية المتمثلة فى شخصه العظيم عليه السلام. أما عن تلك المحبة الاتباعية فهى التى أخبر عنها ربنا تبارك وتعالى بقوله : ''قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّه ُغَفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران 31). وتلك المحبة ناشئة من كونه نبى مرسل من قبل الله تعالى ومن حيث إنه لا يُعقل أن لا يحظى أى نبى بتلك المحبة الخالصة التى مدارها على إخراجهم من ظلماتهم النفسية والكونية إلى نور الهداية الربانية ومن ثم إلى تلك الحياة الأبدية بعد البعث والنشور. فالمحبة هنا سببية من حيث كونها إرشاد وهداية. أما المحبة الأولى الذاتية فهى وهبية. وذلك من حيث كونها متأصلة فى جوانب كثيرة ومتعددة منها الأخلاقية ومنها الحمائية ومنها المتعلقة بالشفاعة ومنها ما هو متعلق بالإيثار النفسى ومنها ما هو مكانة -أى متعلقة بجنابه الشريف ومكانته ومقامه الذى منحه إياه ربه تبارك وتعالى- وهو ما أفرد له العلماء عامة والمتصوفة خاصة أبوابًا كثيرة فى العلم تحت ما يجوز أن نسميه -الجناب المحمدى- لكونه عليه السلام حظى بما لم يحظ به نبيا ولا رسولا من قبله، وينبئُك عن ذلك عروجه إلى السماوات العلى لمكان لم يصل إليه أحد قبله ولا بعده وكثير وكثير من تلك الجوانب التى جاز لها أن تفرد لها المجلدات وهو ما قد حدث بالفعل من علماء شتى قديمًا وحديثًا. ومن دلائل تلك المحبة الاتباعية أيضًا قوله تعالى: "وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الحشر 7). والمتأمل فى تلك الآية الشريفة يرى إطلاق الاتباعية له صلى الله تعالى عليه وسلم لكونها غير مقيدة لشيء بعينه. فما إن أمر بأى شيء وجب اتباعه فيه. وما إن ينهى عن أى شيء كذلك وجب اتباعه فيه. ويدعم ذلك المعنى قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" (الأحزاب 36). ولكون المقام لا يتسع.. فيكفى معرفة كيفية محبته صلى الله تعالى عليه وسلم المتمثلة فى هاتين الصورتين الاتباعية والذاتية، لعلنا نكون قد ألقينا الضوء على ما يفتح القلوب لمزيد من البحث والتحرى والاستقصاء لما قد يشحذ الهمم لمزيد تعلق بجنابه الشريف من حيث اتباعه التبعية الصحيحة المبنية على محبته من حيث كونه نبى واجب اتباعه بحب وصدق وإخلاص، ومن حيث كونه حنونا عطوفا على أمته فوجبت له محبته الذاتية لشخصه العظيم الكريم.