إن القرآن الكريم ظاهره أنيق... باطنه عميق... لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمة إلا به.. يريح النفوس ويشفي العلل لكل من ذاق حلاوة نظمه، يفتح أبوابا من المعرفة لكل من تعمق فيه، وفي كل آية من آياته المباركة مشاهد ربانية تكفي من العبر ما إن تعجز العقول العالمة عن إدراك مراميها ومقاصدها. هذا وقد شاهدت في القرآن المبتغى والحل لكل المشكلات والعلل المعايشة في مجتمعاتنا، وأول هذه المشكلات - في نظري – الارتكان إلى الغير و جعله منفذا لقصد المراد الذاتي ، قد شاهدت في سورة الكهف العديد من الصور المقرونة بالعبر نذكر منها مشهد الأخذ بالأسباب أولا قبل طلب المعونة ، قال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)) (الكهف). فقد حكى القرآن الكريم لنا قصة ذي القرنين دون الإشارة إلى اسمه ولا زمنه، لإبهامه على الناس لتشيع هذه القصة في كل شخص وفي كل زمان ومكان، لتكون قصته مرجعا لكل من أراد الرقي، ليتجه إلى الأسباب لا إلى التواكل والارتكان إلى الغير، ويتجلى ذلك من تكرار الأخذ بالأسباب في النظم القرآني لسورة القرآنية ذاتها، ودليلي على ذلك إني سمعت الله – سبحانه و تعالى – بعقبها يقول: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)) (الكهف). إشارات قرآنية مباركة تؤكد على أن النصرة و الفوز لم يك أبدا محلا للمصادفة بل لابُّد أن يتصدره الجهد والعمل والمثابرة، وهذا المشهد القرآني قد شاهدته في السنة النبوية المطهرة حينما فقد الرسول – صلى الله عليه وسلم - المعين من عمه - الحماية الخارجية – وزوجه خديجة - الإيناس الداخلي – في عام واحد وهو عام الحزن، فما نالت قريش من النبي – صلى الله عليه وسلم – شيئا يكرهه إلا في هذا العام. وقد ترتب على هذا الأمر الجلل اتجاهه إلى الطائف ينشر دعوة الحق بعد أن غلقت ألباب المشركين وقلوبهم؛ فلم يجد المعين، فلم يجد إلا أهل المدينة بعد شكواه لربه – عز و جل –، قائلا : قال :(اللهم إني إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). دعاء فيه كل مقومات الإيمان و اليقين، بعد استنفاد الأسباب التي لا تحمل من دلالات التواكل شيئا. وهنا ترك الله – سبحانه و تعالى - لنبيه ممارسة الأسباب واستنفاذها ثم بعد ذلك الاتجاه إلى السماء ليكون قدوه لقومه من بعده، فالعمل والسعي في الدين الإسلامي متصدر الآيات القرآنية المذيلة بعظيم الجزاء. وهذه الدروس العظيمة المستمدة من النص القرآني والسنة النبوية يجب أن يستفيد بها أبناء الأمة الإسلامية عبر تتابع الأزمان والعصور حتى لا نفقد ديننا وتضل هويتنا.