حين يتكلم الأستاذ ينصت الجميع، حين يتكلم الأستاذ ، يتنفس الجميع الحدث حتى النخاع. حين يتكلم الأستاذ ينصت الجميع قسرا وطواعية، حين يتكلم الأستاذ تنسحب المكالمات الإلكترونية والفضائية وتلملم وريقاتها الجاد منها والمارق، لترتحل بعيدا بلا عودة حتى يغيب عن المشهد. حين يتكلم الأستاذ ينصت الجميع حد التعايش، حين يتكلم الأستاذ تتجمد أوصال شبكات التواصل الاجتماعي عن تحليل الفراغ بمزيد من الحضور الاجتماعي و الثقافي المهيب. لقد رحل عنا اليوم يا سادة مؤسس إعلام العمق، رحل عنا محلل المراحل الفارقة في تاريخ الأمة المصرية، رحل عنا عميد المدرسة الصحفية، والذي ارتقى بالصحفي إلى مرتبة الباحث الأكاديمي، رحل عنا مؤرخ العصور صاحب الرؤية النافذة والبصيرة الخصبة والبيان العفيف، رحل عنا صاحب حوار التنظير والحرفية المهنية، والحيادية المسئولة. فوداعا لصاحب المكتب ذي الملامح الكلاسيكية، والضوء الرصين، والكادر العميق، وداعا لصاحب الوثائق، حامل الأقلام الرشيقة التي سطرت تاريخا يحمل عمقا تراثيا لشخصية مصر الحلم، إنه الزمن حين يفرغ ما في جعبته من حكمة، إنه كتاب التاريخ حين يرتب الأحداث في ميثاق تطوري وفي سياق وظيفي ليعيد ترتيب ضفائر الأحداث والوقائع بميزان الخبرة، فيتوغل برفق وجاذبية لعمق التنظير الاجتماعي والسياسي للمشهد. رحل عنا صاحب الرؤية النافذة في عمق كتاب التاريخ، هذا الرجل الذي يستطيع بهدوء ووقار مهيب أن يسرب جغرافية المشهد إلى خرائطنا الإدراكية، لنستوعب جميعا حاضر الدولة المرهقة بعين سوسيولوجية رصينة. إنها عين الأستاذ تلك التي تقرأ من الماضي التجربة، وتغزل من الحاضر رداءً يليق بمصر، إنها عين الأستاذ التي تستشرف من المستقبل روحا مشرقة لتضع مصر الحلم في عمق مثلث التوازن الاستراتيجي إيران وتركيا ومصر، ليقدم لنا إعلاما من طراز آخر، إعلام يليق بحجم مصر الحضاري، إعلام يعيد ترتيب المشهد بعيدا عن عالم الهشاشة المتراكم الذي عايشناه أو كما أطلق عليه الأستاذ "poor little Egypt". فوداعا لإعلام العمق ووداعا للأستاذ.