اخيرا اقترب قطار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور من الولوج الى محطته النهائية.. وذلك بعد عثرات عديدة واجهته بسبب اصرار تيار سياسى متأسلم ومصر على الانفراد بصياغة دستور لدولة دينية متجاوزا تاريخ وتراث عريق من المؤسساتية المدنية.. ولكن نجحت أخيرا ضغوطات القوى المدنية من اجل ارساء قواعد اختيار الاعضاء بشكل متوازن.. غير ان الخوف والخشية مازالتا قائمتين .. ولذلك لابد قبل البدء فى الشروع لصياغة دستور مصر الجديدة بعد ثورة يناير ان يكون السؤال التالى جديرا بالمناقشة، رغم انه لا توجد اجابة بسيطة بنعم او لا .. هل الدين يساعد الديمقراطية ام انه يعوقها؟ ذلك ان الكثير بشأنه يعتمد على السياق، فليس من الممكن حتى تقسيم ديانات العالم الكبرى الى فئات محكمة الحدود كديانات داعمة للديمقراطية واخرى محايدة، وثالثة تضعف اثارها الديقراطية، اذ تشمل جميع الديانات مجموعة من النزعات المتنافسة، فتاريخيا نلاحظ ان الديانة تؤيد الحق الالهى للملوك وتؤيد فى الوقت نفسه المذهب الجمهورى القائم على المساواة، ونجد ان وقت واحد فى اطار دين واحد جماعات ذات نفوذ تعمل على دعم نظام حكم مستبد، بينما تخاطر جماعات اخرى بحياتها لحماية معارضى هذا النظام او فضح انتهاكاته... ويمكن القول بأن دينا يتقبل فيه المؤمنون دون تساؤل الحقائق التى تأتيهم من بعض المفسرين القدامى، سيكون اقل بعثا للروح الديمقراطية من نفس الدين الذى تخضع فيه بعض المسائل والخلافات التفسيرية والتأويلية للنقاش، طبعا بما لا يتنافى ولا يتعارض مع الاصول والاساسيات الخاصة بهذا الدين وعقيدته، والاهم من ذلك ستكون العلاقة بين الدين والدولة اوثق واكثر رحابة وبلا عداء . ولكن ما شاهدناه فى مصر فى الشهور الاخيرة يتنافى مع مبادىء المدنية والحداثة ويتناقض تناقضا واضحا مع روح تاريخ الدساتير المصرية ذاتها فالمفترض ان يكون الدستور "كتاب الوطن" والقانون العام الذى تستمد منه كافة المؤسسات، بل والافراد شرعيتها دستورا مدنيا عصريا حداثيا وليس كتاب دينى يتم تفسيره وتاويله حسب هوى طوائف ماضوية بعينها او ايديولوجية فاشية تستقطع من المدنية لتضيف الى فاشيتها او ماضويتها ... فعبقرية العديد من الدساتير المصرية السابقة رغم بعض المسالب .. الا انها كانت تتسم بمعالم الدولة المدنية، ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح، وتمانع التمييز بكافة انواعه، فكافة بنود الدساتير السابقة وفى كافة ابوابها، عندما تتحدث عن الافراد تقول المواطن او المواطنين بلا تمييز او تصنيف، ولننظر على سبيل المثال "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين..." ، "الوظائف العامة حق للمواطنين ...الخ"، "لكل مواطن نصيب من الناتج القومى..الخ"، "المواطنون لدى القانون سواء....الخ"، "كل مواطن يقبض عليه او يحبس او تقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامة الانسان..."، "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون ...الخ"، "تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمى...الخ"، "لا يجوز ابعاد اى مواطن ...الخ"، "للمواطنين حق الاجتماع الخاص فى هدوء ...الخ"، "للمواطن حق الانتخاب والترشيح وابداء الرأى ...الخ"، "لكل موطن حق الالتجاء الى قاضيه الطبيعى...الخ" ... ومن هنا تكمن اهمية الحفاظ على هذه الشرعية مع التاكيد على ان "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على اساس المواطنة"... وبالتالى تتلاقى المواطنة مع المدنية، وتنتفى كافة اشكال التمييز وذلك بحماية دستورية وبقوة سيادة القانون، الا ان هناك محاولات اختراق لهذه الشرعية على يد جماعات الفت البغضاء والانقسامية وادمنت التعصب والطائفية.. فالطائفية هى افرازا للتعصب، وهو الاعتقاد الباطل بان الانسان يحتكر لنفسه الحقيقة وغيره يفتقر اليها... ان كافة المواد الدستورية التى اشرنا اليها توفر ضمانات معينة لجماعات الاقليات دينية كانت او ثقافية او قومية او عرقية او لغوية، فلهذه الاقليات كل الحق ليس فقط فى ان تعترف الدولة بوجودها، بل وايضا ان تحمى هويتها الخاصة وان تهيىء الظروف المناسبة لتعزيز تلك الهوية، وللاشخاص المنتمين الى اقليات كامل الحقوق الديمقراطية بما فى ذلك حق المشاركة على قدم المساواة فى كافة الشئون بل والمشاركة فى القرارات التى تمس جماعاتهم الخاصة او المناطق التى يعيشون فيها، وبالتالى تنتفى هنا فكرة طائفية اى جماعة اقلية فى ظل مجتمع ديمقراطى، او مجتمع يسعى للولوج للديمقراطية، فمن حق – ودستوريا – اى مواطن او جماعة ان تعبر عما تعانيه او تناوله من اذى او تحقير او ان يحط من قدر عقائدهم وديانتهم... ويجب ان نعترف ان الديمقراطية ليست فقط اتاحة اوسع الفرص للمشاركة فى صناعة القرارات الوطنية وفسح المجال لتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب، وانما هى ايضا انجح السبل لتحقيق اكبر قدر من التجانس والاندماج فى المجتمع الوطنى من خلال كافة افراده وجماعاته وطوائفه ودياناته وعقائده.. وبذلك تكون العلاقة بين الدين والدولة اوثق او اكثر رحابة وبلا عداء.. ولذلك لابد من كافة قوى المجتمع الرشيدة والحقوقيون والسياسيون والحزبيون وعامة المثقفين ان يناضلوا من اجل ترسيخ واعلاء هذه القيم المدنية التى تمانع التمييز والطائفية ون يكون الدستور المصرى القادم به ما يمنحنا القوة والشرعية لترسيخ دولة المدنية وسحق كل من ينتمون الى فضائح التمييز والطائفية.