كان لأهل العلم في الفكر الإسلامي دور متميز على مر التاريخ في مواجهة الأفكار المتطرفة، ومن بينها فكر "المداخلة" الذي تحدثنا عن ظهوره بمصر في مقال سابق، واستكمالا لتعريفنا لمنهجهم فهو منهج يرفض معارضة الحاكم ويرفض التعددية الحزبية والفكرية والدينية ويدعو لوحدة الأمة بمنهج واحد، ويرون أن الحاكم هو الدولة والسلطان، لا يجوز معارضته ولا نصيحته في العلن. وبعد وقف وزارة الأوقاف لاثنين من الأئمة في المنيا عن الخطابة لتبنيهم نشر هذا الفكر على منابر المساجد، فإن الأمر يتطلب فهما أوضح لأفكار هذه الفئة ووضع منهجية لرد أفكارهم وكشف زيفها وانحرافها لمحاصرة انتشار أفكارهم عبر جيوب وأنفاق الظلام، فكما قلنا الأفكار لها أجنحة لا يمكن لأحد منعها من الطيران إلا بالفكر والحوار. فالمداخلة يصنفون ضمن الفرق التي لعبت دورا كبيرا في إشغال المسلمين وإضعاف وحدتهم وإبعادهم عن منهج الحق، ومن هذه الفرق على مر تاريخنا الإسلامي كانت الرافضة والمرجئة والخوارج والقدرية والجبرية، وما إلى ذلك من فرق ومذاهب، تتداخل مناهجها تارة، وتبتعد تارة أخرى، ولكنها كلها في النهاية تؤدي إلى مصير واحد وتصب في دائرة واحدة، وهو تحريف منهج الإسلام عن المسار الصحيح الذي جاء لأجله رسول العالمين النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم). لم يكن ظهور المداخلة في تاريخنا القديم بأسماء أخرى وحسب بل ظهرت خلال السنوات الماضية وتواصل الظهور في عدة دول مجاورة، فبدأت ملامح ظهورها تبرز إلى السطح بعد أحداث غزو العراق للكويت، وبدأت نشر أفكارها على ألسنة بعض المنتسبين إلى العلم، ورغم أن هذه الأفكار لم تكن آنذاك أخذت طريقها إلى الأوساط الشعبية الكبيرة، إلا أنها كانت تواجه برد فعل قوي من علماء الدين. وفي الأردن بدأت تظهر خلال الآونة الأخيرة فئة تحمل لواء هذا الفكر – تحديدا في جنوبالأردن – حيث انتشر أشخاص ينسبون أنفسهم إلى ما يعرف بفرقة الجامية نسبة إلى الشيخ محمد أمان الجامي الذي شكل هذه الجماعة الجديدة مع الشيخ ربيع المدخلي لتعرف مؤخرا بالمدخلية، وكما يقول الكاتب الأردني الدكتور رحيل محمد غرايبة فإن هذه الجماعة تتبنى فكرا متشددا وآراءً متطرفة من الجانب الآخر المقابل للتطرف المعروف في الساحة العربية والإقليمية والعالمية؛ الذي يتم وصفه بالإرهاب، حيث يعتقد هؤلاء بتحريم النقد والتحريض ضد ولي الأمر، إلى درجة التجريم الذي يستحق القتل وسفك الدماء، ويفتون بحل دم كل من يسهم بالنقد العلني عبر الأشرطة التسجيلية أو المحاضرات ضد الحكام، بحجة أنهم خوارج يريدون الاستيلاء على السلطة، ومنازعة الأمر أهله. وهذه الفرقة تغالي غلوا شنيعاً في فقه الطاعة لولي الأمر، وتعطيه صكا مفتوحا بفعل ما يشاء إذا كانوا ينطقون بشهادة أن لا إله إلا الله، وتعد كل من يطالب بالإصلاح السياسي بأنه حزبي مبتدع، ينتمي لجماعات الخوارج التي تستحق القتل والإبادة، وتفتي بتطبيق حد الحرابة عليهم، ويشير الدكتور غرايبة إلى أن هذه الفرقة في جنوبالأردن يملك مسئولوها أموالاً، ومواقع إعلامية، وصحفا ومراكز دراسات من أجل التبشير بهذا الفكر ونشر هذا الفقه. ولعل مفكرو الأردن استيقظوا مبكرا على فكر هذه الفئة الضالة، مطالبين وزارة الأوقاف الأردنية والجهات المسئولة بأن تلتفت إلى هذا النوع من التطرف، الذي لا يقل خطورة عن تطرف العنف واستخدام القوة وتسويغ الخروج المسلح على الحكام، فكلا الفريقين يعمل على نشر الفتنة وتقسيم المجتمع. وعلى نهج واحد يجب أن تسير الدول العربية لمواجهة هذا الفكر الذي يطال المنطقة العربية ويراه بعض الحكام واعزا لهم بوأد أفكار معارضيهم، فالفكر يجب أن يواجه بالفكر لرد الشبهات ومنع الفتن والتحريض على العنف.