الحالة المصرية الراهنة تشير الي تلك' الشمعة التي تحترق من الناحيتين'.. ناحية فساد المنظومة الاقتصادية التي ورثتها ثورة يناير عن النظام السابق والتي يحتاج اصلاحها الي انتفاضة اقتصادية حقيقية تعيد الأمور الي نصابها والي تضحيات ثورية لاصلاح ما فسد طوال الأربعين عاما الماضية.. أما الناحية الأخري للشمعة التي تحترق فهي تلك الفوضي السياسية والاجتماعية العارمة وما يصاحبها من تآكل واستنزاف للقدرات الاقتصادية الي الدرجة التي تكاد معها العجلة الاقتصادية أن تتوقف تماما. تلك هي نتيجة الأحداث المتلاحقة والتي يعززها ويؤكدها الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الأسبق في كتابه عن تجربته القصيرة بحكومة ما بعد ثورة25 يناير' أربعة شهور في قفص الحكومة'. الصورة قاتمة الي حدود بعيدة ودول الخليج العربية الشقيقة تفضل الانتظار حتي تري ما سوف تسفر عنه هذه الفوضي, ولا نقول أنها ربما تنتظر شيئا آخر.. وصندوق النقد الدولي- الذي لم تجد مصر مفرا من اللجوء اليه بعد كانت قد امتنعت في الشهور الماضية أملا في حدوث بعض التحسن في الأداء الاقتصادي يغنيها عن سؤال اللئيم يشترط التوافق المجتمعي علي قرض بقيمة3 مليارات و200 مليون دولار هدفه الأساسي وقف نزيف الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي وصل الي مشارف الخطر.. وكيف يمكن لهذا التوافق المجتمعي أن يتحقق وسط هذه الفوضي وذلك الصراع المرير ؟. فوضي الاضطرابات السياسية والاجتماعية والفئوية والأمنية في العام الأول للثورة أوصلت الاقتصاد المصري الي حافة الهاوية علي رغم علم جميع القوي السياسية والحركات الثورية أن وطنا في حجم مصر اذا ترنح فانه يحتاج الي سنوات حتي يستعيد توازنه, واذا سقط لن تقوم له قائمة علي الأقل علي المدي المنظور, ولن تتحقق أي من مبادئ وشعارات الثورة في الحرية والعدالة والعيش الكريم, بل سوف يصل الأمر الي الوضع الذي يمكن للناس فيه أن يأكلوا بعضهم بعضا. ذلك الوضع المؤسف الخطر يكشفه الببلاوي في كتابه الصادم عندما يقول, إن جملة الانفاق في ميزانية2012-2011 يبلغ490 مليار جنيه في حين أن جملة الايرادات لا تتعدي350 مليارا, أي أن اجمالي العجز يصل الي140 مليار جنيه بنسبة27% من حجم الانفاق.. وتزداد الصورة قتامة, والحقيقة مرارة عندما نعرف أن ميزان المدفوعات قد حقق عجزا بلغ10 مليارات و300 مليون دولار في النصف الثاني من السنة المالية بعد أن كان محققا لفائض خلال النصف الأول من العام المالي نفسه, وذلك مقابل فائض كان يبلغ3 مليارات و400 مليون دولار في العام السابق.. انها النتيجة الحتمية لانهيار السياحة وانسحاب وتوقف الاستثمارات المباشرة والتوظيفات المالية وذلك الوضع الأمني المهتز مع أجواء عدم اليقين التي تحيط بمستقبل الأوضاع السياسية وهما' ألد' أعداء الاستقرار والتقدم الاقتصادي علي حد تعبير الببلاوي. ولعل أزمة الوقود الطاحنة التي تعصف بالبلاد هذه الأيام تصل بنا الي بيت الداء في عصب الاقتصاد المصري وهو قضية الدعم الذي كان بمثابة الحل السهل الذي لجأ اليه النظام السابق لتسكين وتهدئة الشارع المصري دون النظر الي العواقب الوخيمة التي قد تقلب الأوضاع الاجتماعية كلها رأسا علي عقب اذا ما انفلت زمام السيطرة عليه.. فقد بلغ حجم الدعم في الموازنة الأخيرة157 مليار جنيه بنسبة32% من حجم الانفاق.. ومع فوائد خدمة الدين العام التي بلغت106 مليارات جنيه نجد أن الأثنين معا( الدعم وخدمة الدين) بلغا55% من اجمالي الانفاق.. أي أن45% فقط من جملة الانفاق مطلوب منه أن يلبي احتياجات85 مليون مواطن من الأمن الداخلي والخارجي والحرية والعدالة والعيش الكريم بما في ذلك المأكل والمسكن والتعليم والصحة والمرافق العامة.. انها بحق معادلة الموت المحقق.! هل يعلم أصحاب الصوت العالي الرافعين لشعار' اسقاط كل شئ' حجم الكارثة التي تعيشها مصر و ما يمكن ان يسفر عنه استمرار مناخ الفوضي الشاملة من انهيار كامل وحقيقي لكل مكونات الدولة وسحق كل ابناء الوطن ؟.. هل يعلمون أن كل الهيئات الاقتصادية المصرية بترول وكهرباء ومياه وسكك حديدية وبنوك وشركات ومؤسسات وغيرها وغيرها- كلها مدينة لبعضها البعض, وكلها غير قادرة علي الوفاء بمديونياتها مما خلق حلقة نارية مفرغة لا يستطيع أحد الخروج عنها, تحرق الجميع وتنذر بكوارث لا يعلم مداها غير الله ؟. يقيني أن الفترة الانتقالية التي نعيشها الآن والتي تحولت الي مادة خصبة للاتجار بمستقبل وأمن هذا الوطن, لن تنتهي بمجرد انتخاب الرئيس الجديد واكتمال منظومة الدولة بما في ذلك الدستور اذا قدر له أن يخرج الي الحياة بدون خسائر اضافية تزيد من وهن وضعف المجتمع المصري.. ويقيني أن الفترة الانتقالية التي نحن بصددها الآن تعني مجرد الانتهاء من ترتيبات نقل السلطة الي الحكومة والسلطة المدنية, وأن الفترة الانتقالية الحقيقية هي تلك السنوات التي ستبدأ مع الرئيس المنتخب الجديد الذي وصفته في المقال السابق ب التعس سيئ الحظ.. بل ربما تستمر هذه الفترة الانتقالية الي ما بعد فترتين رئاسيتين مقبلتين, ذلك أن المطلوب هو الانتقال من حال الفوضي والمحسوبية والفساد الاداري المتوغل في نفوس الصغار والكبار علي حد سواء, الي حال دولة القانون والمؤسسات والممارسة الديمقراطية الحقيقية القائمة علي الوعي السياسي وليس علي شدة الاحتياج المادي.. هل يمكن ان نؤسس لهذه الدولة التي نريدها في ظل رشاوي الانتخابات والمال السياسي الذي يصرف الآن بسخاء لمجرد الحصول علي توكيلات الترشح للرئاسة, ناهيك عن ما سبق من رشاوي فاضحة في الانتخابات البرلمانية بغض النظر, بل مع الفخار بنزاهة العملية الانتخابية في حد ذاتها ؟. ما نحتاجه في الفترة الانتقالية المقبلة هو رئيس قوي وحكومة أقوي وبرلمان شديد الوعي بمتطلبات المرحلة لا يهادن ولا يناور ويسعي بكل الحسم الي وضع التشريعات التي تحد من توغل الفساد في كل أركان الدولة, ويساعد الحكومة والرئيس في الضرب بقسوة وبيد من حديد علي كل الفاسدين والمفسدين, لا أن يجامل ويغطي من أجل حسابات الأصوات الانتخابية كما كان يحدث في سنوات مبارك العجاف. المطلوب أن يكون القانون هو سيد الموقف, فلا تقطع الطرق بدون حساب رادع, ولا تتوقف العملية الانتاجية بدون مساءلة, ولا تقتحم المحاكم وتتعطل العدالة بدون ردع قوي.. المطلوب اقالة منظومة الأمن والقضاء من عثرتها حتي تكون البنية الأساسية لمجتمع قادر علي الوفاء بمتطلبات الديمقراطية الحقيقية التي تقوم علي احترام الأقلية لرأي الأغلبية ولا تضع العصا في العجلة لمنع المسيرة.. وكذا أن لا تتوغل الأغلبية فتضيع حقوق الأقلية في المشاركة الفعالة.. الديمقراطية الحقيقية هي الايمان الجازم بأن اليوم لك.. وغدا قد يكون لغيرك اذا افتقدت ثقة الجماهير.! نقلاً عن الأهرام