شكلت سياسة الردع منذ آونةٍ بعيدة أحد أهم الدعائم والركائز الأساسية التي بنيت عليها سياسة توازن القوى رغم اختلاف شكلها البنيوي الذي سربل النظام الدولي القديم أو المعاصر من فروة رأسه إلى أخمص قدميه، أي سواء أكان النظام الدولي متعدد الأقطاب أم ثنائي القطبية، أم أحادي القطبية الذي هيمنت عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية. وإذا كان نظام توازن القوى يمثل أهم السبل في مواجهة التحديات الخارجية، بسبب مقدرته الفائقة على توليد ضغوط متعادلة ومتعاكسة، فإن ذلك لن يتأتى إلا بحضور وفاعلية سياسة الردع، التي لولاها لما أمكن الحديث عن توازن القوى وعن وجود حالة من الاستقرار النسبي في النظام الدولي وبين الجماعة الدولية. وينصرف مفهوم الردع إلى منع طرفاً ما وثنيه عن الإقدام على أي عمل من الأعمال، أو تبني أية سياسات أو سلوكيات أو تصرفات غير مشروعة أو غير لائقة، لا يرتضيها طرف آخر، يرى بأنها يمكن أن تلحق به الضرر والأذى، أو يمكن أن تشكل تهديداً لمصالحه أو لأهدافه أو لموقعه أو لمكانته، فيسعى في سبيل ذلك إلى منع هذا الطرف من الإتيان بهذه الأعمال، أو تبني تلك السياسات، عن طريق إشعاره بأن المخاطر والعواقب الوخيمة التي سيتعرض لها جراء إقدامه على تلك الخطوة ستكون باهظة الثمن وأعظم من تلك المنافع أو المكاسب المحتملة التي يمكن أن يحصل عليها في حال مضيه قدماً فيما يخطه وينتهجه من سياسات. ويرتكز الردع على ركيزة أساسية هي امتلاك القدرة على إنزال العقاب وإلحاق الأذى والضرر بالطرف المعتدي، عن طريق مصداقية التهديد، الذي يجب أن يقترن به إتيان أي فعل يُلحق الأذى والضرر بمن ينتهج سياسات وسلوكيات عدوانية أو استفزازية. أي يجب أن يكون التهديد الذي يهدف إلى ردع المعتدي وتخويفه قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع، لكي يأخذه على محمل الجد، ويعدل عما عزم عليه، ومن ثم حرمانه من تحقيق أهدافه وغاياته وتطلعاته التي يصبو إليها. ويتحقق ذلك عن طريق امتلاك القوة، لأن ممارسة السياسة بدون قوة تساندها وتشد من أزرها هو عبث في النظام الدولي، مع وجوب أن يحسن هذا الطرف استغلال القوة واستخدامها فعلياً على الوجه الأمثل، على النحو الذي يقود إلى إدراك النتائج والغايات من التلويح باستخدامها وفقاً لحسابات المكسب والخسارة، التي تدفع الطرفين عادةً إلى تفادي الولوج في أية سياسات أو اتخاذ أية قرارات لن يكون بالإمكان تحمل آثارها ونتائجها السلبية، لأن القوة لا يكبح جماحها إلا قوة أخرى مضادة لها أو متفوقة عليها، وهو ما تنبني عليه سياسة الردع. وبالتالي فلو نظرنا على سبيل المثال لمصداقية سياسة الردع الصهيوني سنجد أن الكيان الصهيوني يستخدم هذه السياسة بمهنية واحترافية تامتين فهو لا يترك أية فرصة أو تحدٍ دون التعامل معه، بحيث لا يسمح بمرور تحدٍ واحد دون أن يرد عليه، لأن التقصير في الرد قد يفسر على أنه علامة ضعف، وبذلك يفقد الردع تأثيره وفاعليته. وعادةً ما يأخذ الردع بعض الأشكال، أولهما: الردع بالعقاب، ويهدف هذا النوع إلى قيام الرادع بداية بتهديد الطرف المعتدي بإنزال عقاب مفرط أو قاسٍ، إذا ما قام بإتيان أي عمل أو سلوك لا ينسجم مع مصالح وأهداف الطرف الرادع. وفي هذا النوع قد يتحول الردع إلى صدام مسلح بين الطرفين، في حال لم يرتدع الطرف المعتدي، لأن الردع يستمد قوته من مصداقيته بإنزال العقاب واستخدام القوة. وبناءً عليه يتضح لنا هنا وجود حد فاصل بين التهديد باستخدام القوة واستخدامها فعلياً وهو جوهر الردع، فإذا زال هذا الحد الفاصل وتلاشى، لحظتها سننتقل من التهديد باستخدام القوة إلى مرحلة استخدامها فعلياً ليبرهن الردع على مصداقيته، ويتم تنفيذ التهديد وإنزال العقاب وفتح الأبواب على مصراعيها للثأر والانتقام. وفي هذه الحالة ينتهي دور الردع ومفعوله ويفشل في أداء مهمته حينما يبدأ القتال. والنوع الثاني: هو الردع بالحرمان: ويهدف إلى حرمان المعتدي من توظيف عناصر قوته تجاه الرداع، عن طريق إقناعه بأن الرادع محاط بسياج منيع من القوة والمنعة التي تمكنه من ردع أي اعتداء، وتبديد أية احتمالات أو توقعات للمعتدي بالحصول على مكاسب ومغانم، وجعلها تبدو كسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. وبالتالي فإن مغارمه وخسائره ربما توازي مغانمه وربما تفوقها كلفةً، فيعدل المعتدي ويرجع عن عزمه دون حدوث صدام مسلح. وخير مثال على فاعلية الردع وأثره في إرساء دعائم السلم والأمن الدوليين، أزمة الصواريخ الكوبية التي حدثت بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي في عام 1962م، والتي كادت أن تجعل العالم على مشارف حرب نووية مدمرة، فعلى إثر التحالف الاستراتيجي بين الاتحاد السوفيتي وكوبا، بسبب خوف الأخيرة من إقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية على احتلالها، قام الاتحاد السوفيتي بنشر عدد من الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية على سواحل كوبا يمكن أن تصل بسهولة ويسر إلى جزءً من الأراضي الأمريكية وتدمرها. وعندما اكتشفت الولاياتالمتحدة هذا الأمر، بدا واضحاً أنها على أهبة الاستعداد للدفاع عن مصالحها الأمنية الأساسية، لذا قامت باستخدام سياسة الردع، وهددت الاتحاد السوفيتي بالعواقب الوخيمة التي ستنتج عن عدم قيامه بسحب وإزالة الصواريخ التي كان قد بدأ في نشرها في كوبا. وفي النهاية تم احتواء هذه الأزمة نتيجة لحسن تصرف كلا الطرفين، وإدراكهما للتبعات والدمار الذي يمكن أن ينجم عن استخدام القوة، في حال فشل الردع في ثني أحد الطرفين عن موقفه. ويعزى السبب في ذلك إلى وجود التوازن والتكافؤ في موازين القوى بين الطرفين، الذي كان له أبلغ الأثر في أن يؤدي الردع دوره بفاعلية ونجاح، وينهي هذه الأزمة.