يخبرنا العلم أن الانسان كذوب بطبعه, فالفرد السوي قد يكذب في اليوم الواحد مرات ومرات دون أن يدرك, من الزوج الذي يطري علي قوام زوجته التي ولدت حديثا, إلي الصديق الذي يبالغ في تقدير عمل متواضع قام به صديقه, إلي إدعاء الأفراد البهجة الشديدة لقدوم رمضان رغم علمهم بما يحمله لهم من مشقة, إلي إظهار الحماسة لدي جنود سوف يُلقون لتوهم في أتون حرب يعلمون جيدا ما قد تحمل من احتمالات في أغلبها سئ, حتي الأطفال دون الثالثة يكذبون عكس ما يُشاع, فبكاؤهم الذي هو وسيلتهم الوحيدة لإبلاغك عن مشكلة في بعض الأحيان إن لم يكن أكثرها يكون بلا سبب! وللكذب أسباب كثيرة, منها الإفلات من العقاب ومنها نيل شئ لا يستحقه المرء, كما منها ما هو من قبيل المجاملة لا أكثر, وكما يتطور الانسان ويكتسب مهارات جديدة كلما نضج, كذلك يتطور كذبه, فكذبة تلميذ الابتدائي ذي الخبرات القليلة والمدارك المحدودة ليست ككذبة رجل الدولة, أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر! ويخبرنا العلم أيضا أن استمراء الكذب يكون تلقائيا بتكراره, فقد أظهرت دراسة نُشرت هذا الأسبوع بدورية "نيتشرنيورو- ساينس" العلمية أن الكذب كونه سلوك شائن فهو يثير فور الشروع فيه مستحثات عصبية بالفص الصدغي بالمخ, في نواة تُسمّي اميجداليا وهي مركز من مراكز الإستثارة بالمخ, لكن الدراسة أظهرت أنه مع تكرار الكذب تقل تلك الاستثارة كثيرا وتختفي, بما يعني أن الكذب قد أصبح سلوكا تلقائيا أو اعتياديا عند المرء! لكن كذب الساسة ليس ككذب غيرهم, فالكذبة هنا يتلقّاها حشد أكبر وأعرض و الهدف من ورائها يكون أكبر عادة, ولهذا فمن الطبيعي أن يكون كذبهم أكثر تنميقا وحبكاتهم أكثر جاذبية وأكثر قدرة علي الإقناع, ولا يختلف الأمر هنا باختلاف طبيعة النظم ولا بفسحة المجال العام وإن إختلفت الوسائل, ففي كل الأحوال ما يشغل المشتغل بالشأن العام هو الحيلولة دون وصفه بالكذب, سواء تم ذلك عبر البراعة في قلب الطاولة علي المنتقدين أو المفنّدين لكذبه في النظم الاكثر انفتاحا, أو عبر وأد الأصوات المخالفة ووأد ما قد يتلقفونه من أكاذيب مفضوحة في النظم المستبدة! لكن الحال في مصر لا يشبه ما عداها, فالكذب لدينا لا يتطور بالتقدم في العمر كما هو العرف, والترقي في أروقة الدولة لا يرتبط في الأغلب بسلامة التفكير ولا بمنطق الأشياء, فالدولة المصرية المعاصرة وعلي مدار عقودها الستة الأخيرة اقتاتت في بقاءها علي حزمة من الأكاذيب والخرافات التي تناقض الواقع والمنطق وحقيقة الأشياء, فالزعيم الذي دوما ما يحظي بالإجماع الوطني ويتحصل في استفتاءات دورية علي نسب تقارب ال100% دائما ما يكون عرضة لمؤامرات داخلية وخارجية وكونية أيضا, والدولة التي هي في الواقع عبء علي المواطنين دائما ما تبكّت المواطنين وتحط من شأنهم وتصفهم بالعبء عليها, وذات الدولة التي تدين ببقائها في العقود الأخيرة لمنح ومساعدات و ديون للعالم تتدّعي أنها في حرب مع العالم وأنها مستهدفة وأن الكل يسعي لخرابها ومحو إنجازاتها! لكن كذب سدنة الدولة المصرية في طورها الحالي قد أخذ منحا جديدا, فالأكاذيب والأساطير المؤسسة لمصر المعاصرة والتي عادة ما كان يتم صياغتها بجاذبية رغم خواءها من المنطق لم تعد هي الأكاذيب المسيطرة, فلدينا الآن نوع جديد من الكذب وهو الكذب للكذب, الكذب الذي لا يبحث عمّن يصدّقه, هناك تعمّد للفجاجة وكأن الرسالة هي "من يجرؤ علي المراجعة أو التفنيد أو التكذيب!" تأمل معي مثلا قصة جهاز الكومبليت سي كيور الذي أعلنت عنه الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة, هذا الجهاز المعجز الذي يعالج كل الامراض الفيروسية والأمراض المزمنة والمتوطنة, كان من الممكن وقتها الاكتفاء بالإعلان أن هناك علاج سريع لمرضي الفيروس الكبدي الوبائي, وكان هذا كافيا لأن يكون معجزة, وكان كافيا أن يكون المؤتمر العالمي الذي أعده الجيش للإعلان عن الجهاز المعجزة أن يمضي بلا عبد العاطي, لكن لم يكن هذا ليفي بالغرض, فاللواء مُكلّف ابراهيم عبد العاطي لابد وأن يضيف للمشهد ما ينقصه عندما يتحدث ببالغ النشوة و الغرور أن بإمكانه أن يحوّل الفيروسات إلي كفتة يأكلها المريض! كان تقديري لقصة جهاز الكفتة وقت الإعلان عنه أن قيادات رفيعة بالجيش تورطت في هذا الأمر بحكم إيمانهم المعتاد بالخرافة, وأنه كلما ازداد التشهير بهذا الوهم الذي يدعمونه وكلما ازدادت أصوات المنتقدين علوا, سيزداد حرج تلك القيادات ويزداد صلفها واصرارها علي الهروب للأمام, لكن بعد قليل من المراجعة وبعد أن تكررت ذات النسخة من الأكاذيب في محطات مختلفة بدأت أشعر أن الأمر لم يكن كما تصورت( كاملا علي الأقل)! لم تكن كذبة الكفتة السابقة الأولي من هذا النوع الجديد من الكذب, فقد سبقها كذبات كالإنزال الامريكي علي السواحل المصرية وأسر قائد الأسطول الأمريكي وحرب واشنطن وانتصار الجنرال الفذ صاعد النجم عليها وعلى حلفائها إبان إحتجاجات يونية, لكن الكفتة كانت السابقة الأولي التي تشارك فيها الطبقة الحاكمة بكامل هيئتها العسكرية وبشكل رسمي, وأعقب هذا الكثير من الكذب الجديد الذي دوما ما كان يرافقه استنفار الدولة للإحتفاء به والتأكيد علي أنه من خالص إنتاجها! وكما كان اللواء ابراهيم عبد العاطي ومشروعه الكفتوي شيئا تحشره الدولة في حلوق المواطنين ليتجرّعوه علي مدار الساعة, كذلك كان الفريق مهاب مميش ومشروع تفريعته, والصاغ مصطفي بكري وكتابه الذي طبعته وزراة الثقافة عن تيران وصنافير, وكذلك الخبراء الأمنيين والعسكريين وحروب الأجيال المتعاقبة, وكذلك الجنرال السيسي وتلاجته! الأمر ليس زلة ألسنة أو موالاسات مٌبالغ فيها أو تجويدا انفلت عقاله, إنه احتقار عميق للمواطنين وتجرؤٌ عليهم واستباحة لعقولهم ولآدميتهم ولكرامتهم, إنه أداة جديدة للقمع ولكسر للناس والتنكيل بهم, فالكذب المفضوح المتعمد هو التحدي الذي يعلنه هؤلاء كل يوم في وجه عقول الناس وفي وجه منطق أشيائهم, هو تحدٍ لشجاعة الناس وتحدٍ لقدرتهم علي مواجهته, هو انتقام من انتصار الناس يوما عبر الشجاعة وعبر الإيمان في حقهم في أن يفكّروا وفي أن يختاروا وفي قدرتهم علي التمييز, والأمر أيضا هو طريقة النظام الجديدة لفرز مريديه و خصيانه الذين يعلنون عن ولائهم و استسلامهم التام مع كل كذبة عبر تصديقها و تكرارها والدفاع عنها برغم علمهم أنها تنافي المنطق و تتحدي قوانين الطبيعة وتناقض كذبات آخري سابقة!