عامان مرا علي إعلان اختراع اللواء طبيب إبراهيم عبد العاطي، الذي كان من المفترض أن يحول الفيروسات إلي كفتة, الموضوع الذي تحول إلي مادة للسخرية والقلش بل وشعارا للمرحلة برمتها, والأمر بالقطع يستحق, لكن أحدا لم يسأل السؤال الأهم في تقديري "بعيدا عن الاكتشاف الكفتوي, كيف تحصّل السيد إبراهيم عبد العاطي، خريج المعهد الفني الصحي بالإسكندرية علي لقب طبيب, وكيف تحصّل علي رتبة لواء مكلف؟". لقد قام الأستاذ محمد أبو الغيط وقت فورة الأحداث بالعمل علي تحقيقين صحفيين ولا أهم عن الموضوع في جريدة الشروق, تناول الأول فيما أذكر الفارق بين جهازي الكومبليت سي كيور المزمع اختراعه بواسطة اللواء طبيب إبراهيم عبد العاطي، الكفتجي الفهلوي, وجهاز السي فاست الذي عمل عليه فريق د. أحمد مؤنس الكفتجي المستنير, وكان التحقيق الآخر عن هوية إبراهيم عبد العاطي ذاته, وهو التحقيق الذي أظهر كذب ادعاءات اللواء الطبيب الكفتوي عن مؤهلاته العلمية وعن أشياء أخري كثيرة.. لكن كيف تسنّي للمواطن الفهلوي إبراهيم عبد العاطي الوصول لمكانة مميزة داخل قدس أقداس الدولة وعمود خيمتها الأخير بحسب المريدين الدولاتيين!. الإجابة علي هذا التساؤل تبدو بديهية إلي حد كبير, فنحن أمام مدني تم منحه رتبة لواء, تلك الرتبة التي لا ينالها أغلب ضباط الخدمة الذي يقضي معظمهم حياته المهنية كاملة من مطلع شبابه حتي تقاعده دون أن ينال شرف الحصول عليها, وهذا يعني أن من منح الرتبة هو أحد أهم قيادات المؤسسة العسكرية, وعلي الأرجح أهمها علي الإطلاق!. أمّا لماذا قد يمنح قائدٌ ذو نفوذ في المؤسسة العسكرية أفّاقا يمارس الدجل كحرفة ويعمل اختصاصا في الأحجبة والرقيات الشرعية ومركبات العطارة رتبة كهذي, فالأمر يعدو مجرد فهلوة عبد العاطي ويتخطّي فكرة نجاحه في عمل حجاب يحل عقدة نجلة القائد العسكري.. الأمر يقودنا إلي فكرة الدولة الحديثة التي صار هذا القائد وزملاؤه أوصياء عليها, وإلي التفكير في قشرة الحداثة التي كانت تداري أروقة الحكم لعقود حتي تآكلت تلك القشرة مع الزمن فظهر ما تحتها من خرافة.. كان الأمر صادما للكثيرين, كعادة كل الاكتشافات المزعجة, لكن مع الوقت سيصير معتادا ومقبولا بل ولا داعي لنقاشه!. نحن شعب كثير منه يؤمن بالخرافة وينفق أمولا طائلة علي أعمال السحر والشعوذة ويتمسّح بالأضرحة ويستصرخ الأولياء للنصرة, والطبقة الحاكمة هي في النهاية من هذا الشعب, وإن تمايزت في ترفها.. لكن الطبقة الحاكمة وبحكم موضعها كان عليها التمسك بقشرة الحداثة تلك, فتلك القشرة هي التي تصنع شرعية الحكم الحديث وتبني أروقته وتحدد اختصاص كل منها, وهي ما تعطي للقوانين الوضعية شرعية الوجود وشرعية الإجبار, ففي النهاية بدون تلك القشرة لن توجد تلك الطبقة بتكوينها ذلك, كما لن تتمكن تلك الطبقة من الالتحاق بالعالم كي تؤدي دورها المرسوم والذي تتقاضي عنه الأجر كأن تكون المندوب المحلي أو الشرطي الإقليمي للنظام العالمي!. كان مبارك ومن قبله السادات يؤمنان بالخرافة علي الأرجح, وكان هذا جليا في جوقتهم المختارة, لكنهم حافظوا علي سمت الدولة الحديثة واحتفظوا بقشرة حداثتهم غير الأصيلة لعلمهم حدود دورهم وطبيعة دولتهم, ففي النهاية مصر هي من يحتاج العالم لا العكس, وربما كان أهم شعار رفعته الدولة المصرية الحديثة منذ نشأتها هو "اللحاق بالعالم", وربما كان هذا جوهر ثورة يناير أيضا, لكن النخبة الحاكمة الحالية هي من التدني والتفاهة بمكان ما يمنعها من إدراك ذلك!. ربما كان رجالات السيسي هم ذاتهم رجالات مبارك وربما حتي رجالات السادات, لكن المختلف أن التمسك بقشرة الحداثة أو الشعور بأهميتها أو التحرج من إظهار الإيمان العميق بالخرافة لم يعد موجودا, يحدث هذا عندما لا يتحرّج رأس الدولة من إظهار إيمانه بالخرافة علانية, وعندما يري شرعية حكمه مبنية علي رؤية في منامه وسيفا أحمر منجه له درويس آخر, وعندما يخرج في خطاب رسمي أمام العالم ليقول أن إنجازاته محجوبة خوفا من عيون الأشرار, وعندما تدرك أن نخبته المختارة والتي انتقاها بنفسه هي راعية الخرافة في مصر!. الأمر يبدو كسياسة عامة للدولة, فعندما يصل الأمر أن مدير جهاز المخابرات العامة يعزي فشل السياسة الأمنية في ملف سيناء إلي أنها "معمول لها عمل" بحسب قوله, وعندما تجد أن مرتضي منصور القريب من السيسي ومن المشير طنطاوي وصديق وزير العدل الصدوق ورأس حربة التخريب الذي لا يكل ولا يمل لا يفتأ يتحدث علي شاشات التلفاز وفي صفحات الجرائد عن الخرافة وعن أعمال شبراخيت, وعندما تجد سعيد حساسين أحد الأفّاقين والمشتغلين بالدجل عضوا بمجلس النواب, وهو المجلس الذي تم اختياره بمعرفة الأجهزة الأمنية بحسب شهادات النواب أنفسهم, وعندما تجد أن لواءا سابقا ونائبا في ذات المجلس كاللواء حمدي بخيت يتحدث ليل نهار عن اختراعات خزعبلية علي شاشات التليفزيون, وعندما يكرّم محافظ كمحافظ المنيا بيضة, لأن عليها نقشا يشبه لفظ الجلالة تدرك أن الأمر ليس عابرا أو أنها مجرد حالات فردية!. وعندما يكون أحد مانشتات الصحف اليومية المعتادة, التي نعرف جميعا كيف يُدار معظمها, هو عن اختراعات المخترعين الصغار كالوحش الطائر والفهد العائم والغوريلا التي تبيض, وعندما يكون النصيب الأكبر من هذه الأخبار وتلك المانشتات عن التحطيم المتكرر لنظرية النسبية, أهم النظريات العلمية في القرن الأخير, علي يد الصعيدي وابن أخوه البورسعيدي, تدرك وقتها أنها حرب واعية للخرافة والمخرفين ضد العلم وضد الحداثة وضد العالم الذي فشلنا في اللحاق به!. إن الأريحية الشديدة لدي النخبة الحاكمة التي آل إليها ميراث مصر المعاصرة في الإقرار بإيمانها العميق بالخرافة هو بمثابة مانفستو إقرار بفشل تجربة مائتي عام نحو الحداثة ويقين لا يتضعضع لدي تلك النخبة أن مشروع اللحاق بالعالم قد صار مستحيلا, ربما لهذا لم تعد تلك النخبة تكترث كثيرا لموقعنا في الخريطة أو كيف يرانا أو يتعامل معنا العالم من حولنا, بل ولم تعد تكترث لوجود مؤسسات حكم حديث من عدمه, بل وقد لا نذهب بعيدا إن رأينا أن تلك النخبة قد أعلنت أن حربها علي تلك الرايات وعلي العالم ذاته.. وربما كان هذا هو جوهر عداء تلك النخبة ليناير حتي بعد تمكنهم منها وانتصارهم المرحلي المحقق عليها, فثورة يناير هي في الأخير آخر من يحمل راية اللحاق بالعالم في مصر الآن!.