الإصلاح الديني يبدأ بالاصلاح السياسي _تأميم الدولة للدين يزيد الإرهاب والتطرف أحمد عبد ربه باحث ومدرس للنظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة، ويعمل الآن كباحث زائر ومدرس العلوم السياسية المقارنة بجامعة دنفر في الولاياتالمتحدة، نشر مؤخرًا جزء من مشروع بحثي عن دور الدين في المجتمع عبر سلسلة من المقالات جاءت بعنوان " حتى لا يعود الإسلام غريبا" و"وعي إسلامي مختلف" نشرت بجريدة الشروق المصرية. عبر هذه المقالات اشتبك أحمد عبد ربه مع السؤال المحوري في مجتمعاتنا العربية على مدار القرنين الماضيين والمرتبط بدور الدين في الدولة الحديثة، وإلى أي مدى يحتاج الإسلام لتجديد خطابه وكيف يمكن القيام بذلك وعرض تجارب عديدة لدول خاضت هذه التجربة في أوروبا أو أمريكا الجنوبية،عن هذا البحث ورؤيته لسبيل الخروج من هذا الإشكالية دار معه هذا الحوار. حاوره : إسلام أنور _أشرت في مقالاتك لحديث النبي الذي يقول فيه "وُلد الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا "وشرحت أن غربة الإسلام الأولى كانت بسبب تمرده وثوريته وكونه سابق لعصره في حين فسرت غربته الثانية بأنه لم يعد متطورًا ولا عصريًا، برأيك ما الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟ في البداية أريد أن أفرق بين الدين الإسلامي كرسالة بعث بها سيدنا محمد، وبين التطورالذي حدث للدين، فأصبح معه الدين كائن اجتماعي عبر محوريين هما تطور تاريخي عبر العصور والأزمنة المختلفة من 1400سنة وحتى الآن وتطور جغرافي بعد أن كان مقتصرًا على أقلية ساكنة في شبه الجزيرة العربية فأصبح دين عالمي موجود في كل قارات العالم حاليًا. في هذه المقالات حاولت أن أتحدث عن شعور الغربة الموجود عند كثير من المسلمين الذين قابلتهم في سفري ما بين أمريكا واليابان والمانيا، وطرح سؤال أين المسلمون من الإسلام؟ ولماذا الخطاب الديني التقليدي في الدين الإسلامي دائمًا يلوم الناس؟ وأشرت إلى أن الدين ككائن اجتماعي قابل للتطور ومتصالح مع الحياة وتغيراتها في حين تبقى الأزمة في علماء الدين ورجال السلطة الذين يريدون فرض صورة محددة للدين تخدم مصالحهم. _في الحديث هناك إشارة لنقيضين أحدهما يقدم أقصى صور التقدم والتمرد في بداية بعثة الإسلام والآخر يقدم الآن العكس تمامًا كيف ترى هذا التناقض ؟ هناك فرق كبير بين الخطاب الإسلامي المسموع أو المكتوب وبين التطبيقات الإسلامية ففي الوقت الذي نجد معظم علماء المسلمون يتحدثون عن وسطية الإسلام وقيم التسامح وحرية الاعتقاد، نجد في تاريخ الإسلام وتطوره وقائع وصراعات عنيفة للغاية بداية من أحداث الفتنة الكبرى وصولا إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية ، وهذا التناقض نراه بقوة في واقعنا المعاش، فهناك حالة من التأميم للدين بدافع منع الإرهاب والتطرف، ولكن فكرة تأميم الدين وسيطرة الدولة عليه في حد ذاتها تنتج الإرهاب والتطرف، فالخطب الموحدة التي نسمعها الآن كل جمعة تجعل من الدين نسخة مكررة بلا معنى تبث أفكار محددة بصورة فجة مما يؤدي الى ابتعاد الناس أكثر عن الدين. _برأيك ما أسباب هذا التناقض وكيف يمكن التعامل معها ؟ المشكلة الرئيسية من وجهة نظري مرتبطة بعلاقة الدين بالسياسة فالسؤال الجوهري الذي نواجهه الآن هل الإسلام دين الحاكم أم دين الناس؟ وهذا السؤال مطروح منذ أحداث الفتنة الكبرى، فعلماء الدين صاروا تابعين للخليفة أو السلطان، وصحيح كان هناك استثناءات لبعض رجال الدين الذين تمردوا على هذا الوضع، وكان مصيرهم السجن أو القتل، وهذا الأمر مستمر حتى الآن فلو نظرت للمؤسسات الدينية الكبرى في كل الدول العربية بلا استثناء تقريباً سوف تجدها مربوطة بالسلطة الحاكمة وهذا يجعل الإسلام مرتبط برؤية الحاكم وليس بتطلعات الناس. مثال على ذلك أتذكر قبل حدوث ثورة 25 يناير 2011 كان العلماء يحذرون من أن الثورة حرام ولكن عندما تنجح الثورة تصبح حلال وهذه سمة اتهم بها الإسلاميين ولكنها موجودة ومستمرة حتى بعد إقصاءهم عن الحكم. والحل لهذه الإشكالية مرتبط بالتطور الاجتماعي والديمقراطي فالإصلاح الديني يبدأ بالاصلاح السياسي وهناك دول إسلامية غير عربية نجحت في ذلك، وحدث لها تطور ديمقراطي حقيقي فعندما ترى الإسلام في ماليزيا أو إندونيسيا سوف تجد نسخة مختلفة من الإسلام، فلم يعد الدين مرتبط بصورة الحاكم وصار لديهم حرية دينية بشكل أكبر وتناغم بين مختلف الطوائف والمعتقدات. _كيف ترى وضعنا الحالي مقارنة بما حدث في دول أمريكا اللاتنية في العقود الماضية ؟ في أمريكا اللاتينية قبل 1980 كان الحكم ديكتاتوريًا عسكريًا وكانت الكنيسة ذات دور سلبي، ومع انهيار الحكم العسكري حدث حركة تغيير كبيرة بالكنائس في البرازيل والأرجنتين والأكوادور كي تواكب التحول الديمقراطي الحاصل في المجتمع، وهذه نقطة يغفلها كثيرًا من التنوريين العرب عندما يتحدثون عن تجديد الخطاب الديني بمعزل عن سياقه الاجتماعي والسياسي، فرجال الدين لن يستيقظوا صباحًا ليقوموا بكتابة نسخة متطورة من الخطاب الديني، فالشرط الرئيسي كي يحدث ذلك هو تغيير في البيئة السياسية والاجتماعية وبذلك تنفك العلاقة السلطوية بين المؤسسات الدينية والسلطة الحاكمة. _ حتى تحدث عملية إصلاح سياسي كيف يمكن التعامل مع المنظومة الدينية؟ نحن بحاجة الى وعي جماهيري بالمشاكل الموجودة في علاقة الدين بالدولة وبرغم أن هذا الوعي قد يستغرق وقتا، لكنه يلعب دورا مهما في عملية تطور المجتمع، وفي فهم الناس لأزمتها الحقيقية، ومن ثم البحث عن سبل مناسبة لحلها، فواحدة من إشكالياتنا أن بعض القوى السياسية والدينية تضلل الناس عن أزمتهم الحقيقة ثم يروجون حلول وهمية يخدعون بها الناس. أما النقطة الثانية من وجهة نظري أن علماء الدين بكل الضغوط التي عليهم من السلطة الحاكمة، مازال لديهم مساحة من الحرية لا يستغلونها، بمعنى أن هناك بعض علماء الدين المقيمون خارج مصر وليس عليهم ضغوط سياسية ولكنهم للأسف ينطلقون في كتاباتهم من نقطة ثورية حالمة جدًا وينتهون إلى صورة سلطوية وحلول تقليدية. النقطة الثالثة متعلقة بمقاومة المجتمع، وهذا يقوم به الشباب بصورة كبيرة، من خلال رفضهم ومقاومتهم للتصورات التقليدية والمتشددة والمنحازة للسلطة التي يروجها رجال الدين، وهذه المقاومة من الشباب إعادة إحياء المحاولات المهمة في تقديم صورة محتلفة للإسلام التي قدمها محمد عابد الجابري في المغرب وفي مصر نصر حامد أبو زيد وغيرهم، هؤلاء المفكرون كسروا سلطة إحتكار الدين من قبل المشايخ والمؤسسات الدينية الرسمية، وصار من حق كل إنسان مسلم أن يتحدث ويناقش ويفكر في الدين وتداعياته الاجتماعية. وثورة 25 يناير لها فضل كبير في عودة الدين كمعبر عن الناس والمجتمع، فالآن هناك صور متعددة للدين داخل المجتمع، فثورة يناير قد تكون فشلت سياسيًا لكنها على المستوى الاجتماعي والديني حققت انجازات مهمة وكبيرة. _تحدثت أيضًا عن خلط رجال الدين بين الدين كرسالة والدين بوصفه كائن اجتماعي، ما السبيل لحل هذه الإشكالية؟ النسق الفكري السائد لدى معظم رجال الدين غير قادر على فهم التطور التاريخي الذي حدث في العالم خلال الثلاثة قرون الماضية وتحديدًا منذ دخول العالم في عصر الحداثة وما ترتب عليها من مبادىء رئيسية متعلقة بالدولة والمواطنة والحرية والدمقراطية ودور الدين في المجتمع، ولذلك معظم رجال الدين يتعاملون مع هذه المفاهيم باعتبارها سوف تهدم الإسلام، ومن هنا فواجبهم الدفاع عن الدين، فتكون النتيجة الصدام الذي نراه الآن، في حين لو أدرك رجال الدين أن الإسلام باقِ وأن دورهم في تطوير الخطاب الديني والمعرفي والتفرقة بين ما هو مقدس داخل الدين وما هو ممارسة اجتماعية قابلة للتغير والتطور لجعلوا الدين جزء من حياة الناس ومتصالح مع واقعهم الاجتماعي بدل أن يصبح الدين معزول كما هو الآن. فهناك أمور متعلقة بالجزية وبناء الكنائس والرئيس مسلم أو غير مسلم، والدولة المدنية كل هذه الأسئلة اجتماعية بالأساس تغيرت صورها على مدار تاريخ الدولة الإسلامية، والآن صار مفهوم الدولة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والتعبد كقيم رئيسية في المجتمع الحديث، ومن هنا فعلى رجال الدين والمفكرين التوقف عن الحديث المكرر والدفاعي عن كون الإسلام دين الحرية والمحبة الخ، والحديث عن ضرورة أن يفهم الناس أن هذه الأمور ليست مقدسة وأن الدين يشجع دائمًا كل قيمة تخدم حياة الإنسان وتساعده على الرقي والتطور. _في كتاباتك مازالت تراهن على الدين كمحرك للتغيير وفاعل اجتماعي في حين تتجنب الحديث عن العلمانية وما تقدمه من حلول للمشكلات الاجتماعية؟ الدين عمومًا مازال يشكل جزءً لا يتجزأ من محددات السلوك السياسي والاجتماعي في مصر بما فيها المواطن غير المتدين، وبالتالي الطرح العلماني أنا لست ضده لكنى أخاف منه ولا أعتبره حلا؛ لأن به مشكلتين الأولي أن كثير من العلمانين العرب تصوراتهم سلطوية وعندهم خوف من الإسلامين ورفض تام لهم "اسلاموفوبيك" وبالتالي ينحاز العلمانيون العرب للسلطة وللقمع من أجل تطبيق أفكاره، وهذا يقوي الخطاب الديني المتطرف بصورة غير مباشرة، والثانية أنه يحتاج لتطور مجتمعي كبير لم ننجزه حتى الآن؛ لذلك ففكرة الإصلاح الديني من وجهة نظري هى القابلة للتطبيق عمليًا والمناسبة للظرف التاريخي والمجتمعي، وبشكل عام هذا التدافع بين مفهوم الاصلاح الديني والطرح العلماني مهم للغاية، ففي الخبرة الكاثوليكية والبروستاتينة استمر هذا التدافع لمدة قرنين، وهذا بدأ يحدث في بداية القرن 21 وازداد بقوة بعد الحرب العالمية وعاد زخمه من جديد بعد ثورات الربيع العربي. _تحدثت في مقالاتك عن الخلل في رؤيتنا العربية لصلح "ويستفاليا" وما ترتب عليه من إنهاء للحروب الدينية وترسيخ مفهوم الدولة العلمانية؟ هناك فكرة تروج في وطننا العربي عن كون الصلح أسس لفكرة فصل بين الدولة والدين، ولكن عندما تقرأ الصلح نفسه لن تجده يتكلم عن الفصل بين الدين والدولة بل يتكلم عن أن كل دولة لها أغلبية في دين معين هي من تفرض سلطتها ودينها، بمعنى يملك الدين يملك الحكم، ومن هنا انتهت الحروب بين البروتستانتية والكاثوليكية ، إذن فالصلح حاول أن يفك الاشتباك بين التعدديات الدينية التى تتناحر. والسؤال المطروح الآن أين الدول العلمانية حاليًا باستثناء فرنسا وهولندا، الإجابة لا يوجد فهاتين الدولتين فقط من نقدر على القول بأن لديهما فصل تام بين الدين والدولة، لكن باقي الدول نجد للدين مكانة مجتمعية ودور فاعل في الدولة فمثلا المانيا لا نستطيع القول أنها علمانية خالصة ولا ايطاليا او انجلترا ولا أمريكا الخ. _أشرت في مقالة "دين الأغلبية.. الكاثوليكية والبروتستانتية فى اختبار الديموقراطية" إلى مجموعة من الشروط التي جعلت العلاقة بين الدين والمجتمع تتجاوزذلك و تصبح علاقة تعايش وليس صدام، منها التعلم من الخبرة التاريخية ودمقرطة المؤسسات الدينية والأحزاب الدينية، برأيك إلى أي مدى واقعنا العربي يمكنه تحقيق هذه الشروط؟ أنا أعتقد أن هذه الشروط عملية ومطابقة جدًا للواقع الخاص بنا، ولكننا نحتاج أن نقف ونتأمل الأخطاء التي نقع فيها أولًا لكي نتجنبها، فبعد عام 2013 عندما نص الدستور على منع قيام أحزاب على أساس ديني، الناس فرحت بذلك واعتقدت بأن هذا ما يحتاجونه لأجل التخلص من السلفيين والإخوان المسلمين وباقي الجماعات الدينية التي تعمل في السياسة، لكن على أرض الواقع فإن الحزب الوحيد الذي تم حله هو حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الاخوان أما باقي الأحزاب التي يشكل الدين جزء رئيسي ومكون أكبر بكثير من المكون السياسي مثل النور والأصالة لم يتم حلها بمعنى أن الحزب الذي لديه أكبر جزء من السياسة والذي يمكن من خلاله تطوير مشروع للفصل بين العمل الدعوي والحزبي كما حدث في تونس تم حله في حين تركت الأحزاب الدينية المتشددة، من خلال هذه الحلول السهلة ونتائجها الكارثية فنحن ندفع المجتمع لمزيد من تسيس الدين سواء كان تسيسه لصالح الدولة أو لصالح جماعات كالإخوان المسلمون أو غيرها. والحل أن نرى ما يحدث في الدول الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية، حيث يوجد لديهم أحزاب دينية بعضها ضعيف وبعضها قوي جدا مثل الحزب الديمقراطي في المانيا، فالحل في الإتاحة وعدم المنع، لأنك عندما تمنع قيام حزب ديني فإن الناس سوف يعملون في الخفاء وينتج داعش وإرهاب. وهناك خطوات وقواعد تنظيمة لدمج الأحزاب القائمة على أساس ديني في الحياة السياسية، منها الالتزام بقواعد الدستور والقانون، والفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي.