أصبح التمدد والتوغل الصهيوني في القارة الإفريقية واقعاً لا يمكن إنكاره أو غض الطرف عنه، حيث تعد القارة الإفريقية إحدى قارات العالم ذات الأهمية القصوى التي تلتقي فيها مجموعة من المصالح والأهداف لكثير من دول الغرب على وجه العموم، وللكيان الصهيوني على وجه الخصوص، الذي تم زرعه في قلب العالم العربي، من أجل جمع شتاته المتناثر وإقامة دولته المزعومة على الثرى الطاهر، ولحماية مصالح دول الغرب والدفاع عنها. ولا يكاد ينتابني أدنى شك في أن القارة الإفريقية تشكل أهمية مركزية لصانعي القرار الصهيوني على نحو مستمر وغير منقطع بغية تطويق الدول العربية، حيث رأى الساسة وصانعي القرار وجماعات الضغط الصهيونية – منذ أمد بعيد – في القارة الإفريقية تربةٍ خصبة، يمكن أن تساهم في إرساء دعائم وركائز وجود دولتهم المزعومة وضمان أمنها واستقرارها، وتكون كذلك بمثابة أوراق الضغط المؤثرة التي يمكن استخدامها في خنق الدول العربية، نظراً لما تتمتع به القارة الإفريقية من مزايا استراتيجية وثروات بشرية وطبيعية لا حصر لها، يمكن استغلالها في تحقيق تلك الغايات المنشودة. فالقارة الإفريقية تدخل ضمن أولويات السياسة الخارجية الصهيونية، نظراً لأنها تشكل بعداً استراتيجياً مهماً ومجالاً حيوياً يمكن من خلاله تحقيق المصالح القومية الصهيونية، والحفاظ على الأمن القومي الصهيوني، كما سبق وأن أشرنا. إذ أن القارة الإفريقية تتسم بموقعها الاستراتيجي المؤثر، لأنها تطل على البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وبها أيضاً أهم المضائق ذات التأثير الهائل على حركة التجارة العالمية. وهذا الموقع الاستراتيجي المتميز يضمن – إن تم استغلاله على الوجه الأمثل – حصول الكيان الصهيوني على مكاسب اقتصادية غير محدودة، حيث يستطيع دعم وتطوير اقتصاده وزيادة إنتاجياته وتنويع مصادر دخله، عن طريق تحرير حركة التبادل التجاري والصناعي المشترك مع الدول الإفريقية، وخلق أسواق متعددة داخل أروقة الدول الإفريقية لمختلف صادرات الكيان الصهيوني من السلع والمنتجات والبضائع، ونقل وتوطين المعرفة والتقنية الحديثة، حيث يرى الكيان الصهيوني في إفريقيا سوقاً تجارياً كبيراً لترويج بضائعه ومنتجاته. وإلى جانب ذلك، فإن المخطط الصهيوني يستهدف تطويق ومحاصرة المصالح المشتركة بين العرب والأفارقة، وتفريغها من مضمونها، وتفتيت جميع الأواصر التي تربط بين مصالح كلا الطرفين، وتهديد الأمن المائي لدولتي مصر والسودان. وفي إطار هذا الوضع الضاغط والمستمر، الذي يقر ويشهد للكيان الصهيوني بأنه ينفذ مخططاته بمنتهى الهدوء والثقة والمهنية والاحترافية، التي يجيد بها التعامل مع الملفات والقضايا الدولية، يمكننا أن نذكر دون خشية التردي في الإسراف في القول إن الكيان الصهيوني نجح نجاحاً كبيراً في اختراق القارة الإفريقية والتغلغل فيها، وجنى من خلال هذا التغلغل تشابك وتعدد علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري بين الطرفين. وتأكيداً على ذلك، فقد نجح الكيان الصهيوني مؤخراً في إبرام الكثير من اتفاقات التعاون ومذكرات التفاهم مع بعض الدول الإفريقية في العديد من المجالات، من أجل تعزيز وتدعيم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين، والولوج بصورة أكثر عمقاً في قلب القارة السمراء. إذ تشير الدراسات إلى تنامي وتيرة الاستثمارات الصهيونية في الدول الإفريقية، وعلى وجه الخصوص في دولة إثيوبيا، التي باتت تحظى بالنصيب الأوفر. ولم يقف الأمر عند هذا الحد من التعاون، بل ازداد عمق العلاقات بين الطرفين، ووصلت إلى تقديم الكيان الصهيوني مختلف أنواع الدعم والتعاون العسكري والاستخباراتي للدول الإفريقية التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من التعاون، حيث يقوم الكيان الصهيوني بتصدير كمية من الأسلحة والمعدات العسكرية على اختلاف أشكالها لهذه الدول، إلى جانب استعانة هذه الدول بخبراء عسكريين صهيونيين في مجال الاستخبارات وتطوير نظم الاتصالات وغيره. وبهذه الاستراتيجية الناجعة استطاع الكيان الصهيوني كسب الرأي العام الإفريقي، وانتزاع ثقة وتأييد الكثير من الدول الإفريقية التي باتت تؤيد الوجود الصهيوني في المنطقة العربية وتعترف بدولة إسرائيل المزعومة ككيان قائم لا يمكن إنكاره. على النحو الذي أفقد العرب رصيداً كبيراً من التأييد السياسي لهم، بحكم الثقل التصويتي لدول القارة في المنظمات الدولية، والذي يمكن أن يستغله الكيان الصهيوني لصالحه بين آنٍ وآخر، لتحقيق غاياته وأهدافه. وكامتداد لما ذكرته، فقد نجح الكيان الصهيوني في إقامة وتشييد منطقة نفوذ في دول منابع النيل ووسط إفريقيا، لتحقيق غايتين، الأولى: بسط نفوذه وهيمنته على هذه القارة. والثانية: امتلاك أوراق ضغط متعددة تتعلق بمياه نهر النيل، التي من المتوقع أن تثير في المستقبل القريب بعض النزاعات بين دول منابع النيل. ومن هذا المنطلق يمكن للكيان الصهيوني أن يطوّق الأمن المائي العربي، ويهدد أمن مياه النيل، وأن يخلق بعض الإشكاليات، أو إثارة بعض النزاعات بين العرب والأفارقة. وخير دليل على ذلك، تهديد الكيان الصهيوني لحصة مصر في مياه نهر النيل، وتطلعه نحو الحصول على حصة ثابتة في مياه نهر النيل، عن طريقة علاقاته المتينة مع إثيوبيا، حيث نجح في إقناع إثيوبيا بتشييد سد النهضة، وقام بتمويله بالتضافر مع بعض الدول والقوى الأخرى التي تتلاقى مصالحها مع مصلحة الكيان الصهيوني في هذا الشأن. وفشلت الجهود المصرية السودانية في التوصل إلى حل بشأن هذه المعضلة بسبب الموقف الإثيوبي المتعنت الذي يأبى الاعتراف بأية حقوق أو حصص في مياه نهر النيل لدولتي المصب مصر والسودان، ولازال الموقف المصري يقف مكتوف الأيدي تجاه هذه المعضلة، ويلتزم الصمت المطبق، وكأنه قد راق له أن يتنازل عن حقوقه التاريخية في مياه نهر النيل كخطوة جديدة في طريق التنازلات التي تقدمها تلك المنظومة العفنة واحدة تلو الأخرى.