"الباص" الأخضر الذي شهد إجلاء المسلحين عن مدينة حمص قبل أشهر مضت، يعاود أدراجه مجدداً، و هذه المرة، صوب الجنوب، صوب ريف العاصمة دمشق. "داريا" التي كانت من أولي مدن سوريا التي رفع مسلحوها السلاح في وجهة الدولة السورية، تعود الآن لكنفها، بعد انحساب المسلحين منها، و تركهم للمدينة، بدلاً من الإستمرار في معركة خاسرة. و ذلك إثر إتفاق "تسوية" تم بين الحكومة السورية و المسحلين في المدينة، قبل ثلاثة أيام، اقتضي بصورة عامة " المسلحون يُنقلون إلى إدلب، والمدنيون مؤقتاً إلى مراكز الإيواء، ريثما يتم إعادة تأهيل مناطقهم لتكون حيوية من جديد". ايقونة المسلحين، التي جاورت المؤسسات الحكومية السورية الهامة، و تقاطعت مع أهم الطرق الإستراتيجية بالعاصمة دمشق، و أشرفت نارياً علي مطار المزة العسكري، و شكلت نقطة الدعم الرئيسي لباقي مناطق الغوطة الغربية، و منصة الإنطلاق نحو الجنوب السوري بقطبيّه الهامّين "درعا و القنيطرة"، تسقط اخيراً بيد الجيش العربي السوري، لتعيد تشكيل خريطة التوزيع العسكري، و لتفتح الباب أمام تسويات مماثلة جديدة في محيط العاصمة. فما هي الأهمية الإستراتيجية لمدينة داريا؟ و كيف كان القتال فيها؟ و ما آليات خروج المسلحين منها؟ و كيف يؤثر سقوطها بيد الجيش السوري علي باقي الجماعات المسلحة في دمشق و ريفها؟ و كيف تعد بوابة الجنوب السوري؟ داريا .. الأهمية الإستراتيجية "داريا"، مدينة سورية تتبع اداريا محافظة ريف دمشق، و تعد أكبر مدن الغوطة الغربية، تجاوز عدد سكان مدينة داريا 255,000 نسمة حسب إحصاء عام 2007، و مع إندلاع الأزمة السورية تحولت المدينة لمعقل للمسلحين و دارت فيها اشتباكات عنيفة، استمرت لأربعة أعوام متواصلة، استخدمت فيها شتي انواع الأسلحة من الخفيف للثقيل للمتوسط وخلفت دماراً شمل % من بنيتها التحتية. فما الأهمية الإستراتيجية للمدينة؟ منذ أن بدأت الأزمة السورية، سعت الجماعات المسلحة علي اختلاف انتمائاتها إلي حصار العاصمة دمشق، فضلاً عن ربط المناطق التي تسيطر عليها الجماعات ببعضها البعض لضمان تثبيت السيطرة علي الطرق و خطوط الإمداد فيما بينها، و ذلك كي تتمكن المجموعات المسلحة من امتصاص هجمات الجيش السوري، و تحقق البقائية الاطول في الميدان. من هنا يمكن وصف المعارك التي جرت بأنها معارك السيطرة علي خطوط الامداد، و من هنا ايضاً كانت مدينة داريا النقطة الأهم في تلك الإستراتيجية بعد مدينة دوما، كما شكلت الحلقة الأهم للجنوب السوري و طرق إمداده عبر درعا و القنيطرة و ذلك للاعتبارات التالية: تبعد مدينة داريا عن قلب دمشق العاصمة 7 كلم، فهي تشكل اقرب موقع للمسلحين من مؤسسات الدولة السورية. تبعد 2 كلم عن طريق دمشقبيروت الدولي تجاور طريق اوتوسترا دمشق درعا الدولي، مما وضعها ك حلقة الوصل بين الريف الدمشقي و الجبهة الجنوبية بمحاذاة الحدود الاردنية تحاذي مطار المَزّة العسكري، و"أوتوستراد المزة" كذلك تمتلك داريا موقعاً أمنياً حساساً حيث تقع بمحاذاة مقر المخابرات الجوية الواقع ضمن كتلة مطار المَزّة، كما أنها تقع بين مساكن عديدة لعناصر وقيادات الحرس الجمهوري، وقريبة أيضاً من منطقة السومرية, ويتواجد في محيط داريا مقرات للفرقة الرابعة التابعة للحرس الجمهوري. ، كما يفصلها مسافة قريبة من المربع الأمني في منطقة كفرسوسة والذي يضم مقرات قيادات معظم الأجهزة الأمنية الحساسة، بالإضافة لقربها من قصر الشعب الرئاسي و لفهم اكثر لخرائط التوزيع العسكري و عمليات الجيش السوري خلال اربعة اعوام، توضح الخرائط التالية استراتيجية الجيش السوري في تطويق داريا تمهيداً لسقوطها، و عزلها عن باقي مناطق المسلحين. و كما نري هنا أحدث خريطة تموضع للجيش السوري قبيل سقوط المدينة، نجح عبر عمليات عسكرية معقدة و طويلة في عزل داريا عن معضمية الشام و باقي مدن الغوطة الغربية و الشرقية. و كما نري هنا وصل الجيش السوري اخيرا الي تطويقها الامر الذي افقد باقي الجماعات المسلحة و مناطقها القريبة من داريا الزخم الاستراتيجي و افقدهم حلقة وصل و امداد هامة، لذا يرجح ان تسقط باقي المناطق في تخوم دمشق كقطع الدومينو تقع في نفس الجيب العسكري مثل جوبر و مخيم اليرموك و المعضمية و خان الشيخ. سقوط المدينة بيد الجيش السوري عمل علي تقوية خاصرة العاصمة دمشق الممتددة نحو ريفي درعا و القنيطرة و بالتالي النطاق الآمن للعاصمة السورية، و الذي كان هدفاً استراتيجيا لعمليات الجيش و حلفائه طوال الأعوام الماضية، العمل علي تأمين طوق العاصمة الاستراتيجي، الذي يفصلها عن المدي العملياتي للمسلحين و يغلق الطريق إليها بوجههم. كما ان سقوطها قطع خطوط الامداد عن مسلحي درعا و القنيطرة واقفل الطريق امام مسلحي درعا و القنيطرة صوب دمشق، و الأهم تخليص سكان مدينة دمشق من منصات اطلاق الصواريخ و القذائف. و علي صعيد آخر سقوط داريا يمهد لتسويات جديدة في محيط العاصمة، مثل معضمية الشام في الايام القادمة. و في مراحل زمنية متقدمة من المرجح أن تظهر مدينة دوما عاصمة مسلحي جيش الاسلام في الغوطة الشرقية كعنوان لتسوية جديدة. آليات خروج المسلحين و المدنيين من المدينة إثر اتفاق "تسوية" بين الحكومة السورية و مسلحي مدينة داريا، الخميس الماضي، و بعد احكام الخناق و الحصار المفروض عليها، وعلي مرحلتين، خرجت اولي دفعات المسلحين من مدينة داريا بعدما سلموا سلاحهم الثقيل و المتوسط للجيش السوري او بالاحري حرقوه و دمروه عوضا عن التسليم، و خرجوا من المدينة بسلاحهم الشخصي فقط، "كلاشنكوف" متوجهين صوب ادلب، فيما خرجت العائلات بإتجاه قرية حرجله الواقعة تحت سيطرة الجيش السوري تمهيداً لبقائهم في مراكز الايواء قبيل اعادة الحياة لطبيعتها في داريا. تم إخراج تسع حافلات، ستة منها أقلت مدنيين إلى مراكز الإيواء، وثلاثة فيها مسلحين، لتتكرر السبت الماضي العملية بإخراج تسع حفلات فيها مدنيين، خمس حافلات أقلت مسلحين، ليكون المجموع خلال اليومين الماضيين، حوالي 1000 مدني وقرابة 500 مسلح بأسلحتهم الفردية؛ فقط "بندقية كلاشنكوف "، وتستمر خلال يومين إضافيين العملية ليتم إخلاء ما تبقى من المجموع الكامل لمن كانوا داخل داريا، ومجموعهم 4000 مدني وسبعمئة مسلح، بما سيكون قد استغرق 4 أيام حسب المخطط له. تنطلق الحافلات المحملة بالمسلحين، من داريا مباشرة إلى الطريق الدولي دمشق حمص، و بمرافقة مروحيات حربية سورية تقوم بمهام الاستطلاع و التأمين و مرافقة الحافلات، تستمر الرحلة عبر حماه وصولا إلى قلعة المضيق في إدلب وهناك يتم إنهاء الرحلة بعودة الحافلات لانطلاق غيرها، حتى الانتهاء من عملية نقل المسلحين. اتفاق التسوية في داريا لم يكن الاول بين السلطات السورية و المسلحين، ففي مايو من العام 2014 ابرمت الحكومة السورية اتفاقا مع الفصائل المسلحة في حمص يقضي بخروج 2000 مسلح من احياء حمص القديمة بعد عامين من حصار الجيش السوري لها. اما في سبتمبر من عام 2015، توصلت الحكومة السورية بإتفاق يقضي بوقف اطلاق النار في بلدتي كفريا و الفوعة بريف ادلب و مدينة الزبداني بريف دمشق الغربي لمدة ستة أشهر و يشمل الاتفاق ايضاً اخراج المدنيين من بلدتي الفوعة و كفريا مقابل خروج المسلحين إلي محافظة إدلب، و في ديسمبر من العام نفسه نتج اتفاقا اخرا في حي الوعر بحمص يقضي بخروج المسلحين منه إلي محافظة ادلب. بقدر ما اضفت التسويات السورية و المصالحات تمزقاً إستراتيجياً للجماعات المسلحة النشطة بالعاصمة دمشق و مدن سورية اخري ك حمص، ظهرت محافظة ادلب كآخر معقل آمن حالياً للمسلحين في كامل القطر السوري، و قاعدته التعبوية الإستراتيجية الكبري التي تمد الفصائل المسلحة في معركة حلب "أم المعارك" بالمقاتلين و العتاد. لتصب مجهودات الجيش السوري و حلفائه العسكرية صوب إدلب مستقبلاً. ف لعل فرحة الجنود السوريين امام انسحاب مسلحين داريا و شحنهم في " باصات" خضراء، و لعل نظرات مسلحي داريا لهم بعلامات النصر الفارغة و الرؤس المنكسة، قد تشي بقدوم معركة اخري في الميدان السوري، سينتصر فيها صاحب النفس الأطول.