في ظل اتساع الظاهرة الدينية وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية في مختلف دول العالم، ومع حالة الحراك المجتمعي والمعرفي الضخمة المزامنة للحداثة والعولمة خلال العقود الماضية، وما نتج عنها من تداعي للحدود الجغرافية وللخصوصية الثقافية والدينية؛ صار الحديث عن "التعددية الدينية" ليس بوصفها رؤية فلسفية وأفكار نخبوية، بل بوصفها ضَّرورة إنسانية ملحَّة واحتياج مجتمعي لا غنى عنه، وخاصة في ظل ما تعانيه مجتمعاتنا العربية من التمزق والصراع المذهبي والعقائدي، ما بين سنة وشيعة وصوفية ودروز داخل الدين الإسلامي، وما بين مسلمين ومسحيين ويهود وغيرهم من الديانات والمعتقدات. وفي هذا السياق يشير الباحث وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية وجيه قانصو في مقدمة ترجمته لكتاب" التعددية الدينية في فلسفة جون هيك" إلى أن بحث التعددية ليس ترفاً فكرياً، بل واقع موضوعي تم تجاهله؛ لأننا استغرقنا في ذاتنا، ولم نعِ أن هنالك آخر يملك نصيبًا متساويًا في الحقيقة التي يملكها أي منا. وقد بين الاحتكاك اليومي مع أتباع الأديان في العالم، أن هذه الأخيرة ليست فعلاً تاريخيًا عارضًا، بل هي مشهد أصيل من نسيج المجتمعات الانسانية، فكما أن التاريخ الانساني عبارة عن سياقات متداخلة لتمظهرات إنسانية متعددة ومتنوعة، كذلك فإن تاريخ العلاقة مع الله هو تاريخ لتيارات روحية ودعوات ونبؤات وبشارات وتجارب شخصية وجماعية. النشأة والتطور ظهر مفهوم "التعددية الدينية" في الغرب خلال عصر الإصلاح الديني في أوروبا، كمحاولة لوضع أساس نظري في العقيدة المسيحية للتسامح تجاه الأديان غير المسيحية، فضلًا عن التسامح مع الطوائف المسيحية المتعددة، التي ظلت لعقود طويلة في حالة صراع وقتال طائفي بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، نتج عنها أكثر من خمسة مليون قتيل، بالإضافة لتدمير مدن بأكملها، ولم تتوقف الحروب حتى وُقعت اتفاقية وستفاليا للسلام عام 1648، وكان من أبرز بنودها الاعتراف بحرية الاعتقاد والعبادة. رام موهن روي مؤسس حركة "براهما ساماج" و"التعددية الدينية" هى نظرية معرفية تشير إلى أن جميع الأديان متساوية في الإيمان بالله، ولا يوجد دين أفضل من الآخر، ولا طائفة مختارة من الله ومميزة دون أخرى، فالجميع يبحث عن الله بطريقته الخاصة، ويمارس إيمانه بالصورة الأنسب له، وترتكز التعددية الدينية في جوهرها على تقبل الآخر المختلف عقائديًا، وهذا يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحداً لا يستطيع نفي أحد، ومبدأ الحرية والمساواة في ظل سيادة القانون، وهى المبادىء التي ترتكز عليها الدولة المدنية الحديثة، لذلك فأي حديث عن تجديد للخطاب الديني أو السعي لبناء دولة مدنية في وطننا العربي لابد أن ينطلق من هذه المبادىء. المفكر الإيراني عبد الكريم سروش بدأ الحديث عن التعددية الدينية في الدول العربية والإسلامية من منتصف القرن العشرين، وقد واجه عداء كبير من القوى السلفية والجماعات الدينية، في حين تحمس له العديد من المفكرين والباحثين التنوريين، منهم المفكر والأكاديمي الإيراني عبد الكريم سروش أستاذ العلوم والفلسفة بجامعة طهران، الذي أصدر كتاب مهم بعنوان "الصراطات المستقيمية .. قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية"، يفتتح سروش كتابه بأبيات شعرية للمتصوف الكبير محي الدين ابن عربي "لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي/ إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني/ لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ/ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان/ وكعبةُ طائفٍ وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ/ أدين بدين الحبِّ أنّىتوجّهت ركائبه/ فالحبُّ ديني وإيماني". ويضيف سروش "التعددية الدينية" تقف في مقابل "الانحصارية الدينية / الأحادية الدينية" التي ترى أن الهداية والسعادة تكمن في اتباع دين معين وأن المخالفين والمنكرين لهذا الدين يتسمون بالعناد عن الحق، في حين تشير نظرية التعددية إلى أنه ليس لدينا حق واحد، بل هناك الكثير من أشكال الحق، فالواقع ذو أبعاد متنوعة، لذلك يتنوع الحق ويتعدد، والحق هنا من قبيل " الحق بالنسبة إلى "، لا الحق المطلق، فالمطلق هو الله الذي يعبده الجميع بصور مختلفة. يبني سروش أطروحته عن التعددية الدينية على ركيزتين أساسيتين هما: "التنوع في فهم النصوص الدينية"، و"تفرد وتميز التجربة الروحية لكل إنسان"، وفي هذا السياق يشير سروش إلى أن الناس يحتاجون في مواجهتهم للكتب المقدسة إلى تفسير وبيان، وإزالة ستار الابهام عن المتن الصامت أو التجربة الدينية الخام واستنطاقها. هذا الاكتشاف والاستنطاق لا يكون على شكل واحد بل يتميز بالتنوع والتعدد، فلا يتمثل الدين في مذهبٍ أو فئة، بل الدين هو مجموع تفاسيره ومذاهبه، وهذا ما يؤدي للقول بأن تعدد التفاسير للمتن الديني يمثل وجوهاً متعددة لحقيقة الإيمان، وهذا التعدد لأوجه الإيمان يسميه سروش أيضاً ب "البلورالية" تشبيهاً بالأحجار الكريمة التي يكون تعدد أسطحها سبباً لتعكس جمالية الألوان والشكل. ويحاول سروش على مدار الكتاب التأصيل لمفهوم التعددية بمعناها الشامل من خلال التأكيد على أن التعددية السياسية والاجتماعية لا تنفصل عن التعددية الدينية، فالتعددية ليست أداة ولا وسيلة نستخدمها في أمور ونعطلها في أخرى، بل هى مبدأ وركيزة أساسية تبنى عليها حياة الإنسان، و ويستدل سروش على تأكيد الإسلام على مفهوم التعددية بأن القرآن الكريم وأحاديث النبي تحتمل تفاسير متعددة، وهناك روايات عدة تشير إلى أن للقرآن سبعاً أو سبعين بطناً، بحيث إننا إذا كشفنا الطبقة أو القشرة الاُولى في معنى النص لظهرت لنا طبقة اُخرى من المعنى، ويشير سروش إلى أن رأسمال الأديان يتمثل في هذه العبارات النافذة إلى القلب والعميقة في المعنى على مستوى الزمان، بحيث إنها تمنح كلّ شخص يقرأها مضموناً جديداً، ولولا ذلك لفرغت من محتواها وتلاشت. وفي إجابته عن الكثير من الأسئلة والإنتقاضات التي وُجهت له، ومعظمها تدور حول فكرة "هل تريد أن نترك ما نحن عليه من الحق، أو نحسب أهل الضلالة والباطل من أهل الحق؟". يقول سروش : ليس هذا هو المقصود، إنما القصد أن ننظر إلى كثرة الآراء وتنوع العقائد بمنظار آخر لنكتشف فيها روحًا اُخرى، فمعترك الفهم الديني بمثابة ميدان سباق فيه لاعبون كثيرون، والمسابقة لا تقوم على مشاركة شخص واحد، بل تقوم على هذه الكثرة والتعدد، وأوّل شرط فيها أن نرى هذه الكثرة، ولا نتصور أن تفسيرنا في هذا العالم هو الحق الوحيد، وفهمنا هو الفهم المصيب ونتحرك من موقع إخراج سائر اللاعبين من ساحة اللعب. فالتعددية في فهم النص لها مفهوم واضح هو عدم وجود تفسير رسمي وواحد للدين أبدًا، ولذلك لا يوجد مرجع ومفسر رسمي له ولا يوجد أي فهم مقدس وخارج حدود النقد، فكل إنسان يتحمل مسؤوليته على عاتقه ويحشر وحيدًا أمام ربه. المصادر : _وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك (المرتكزات المعرفية واللاهوتية) ، المركز الثقافي العربي، المغرب. _عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمية .. قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية، منشورات الجمل، بيروت.