في صورة توضح فشل اتفاق السلام الذي تم توقيعه بين حكومة جنوب السودان والمتمردين في العام الماضي، تجددت الاشتباكات الدامية في العاصمة جوبا بين الأطراف المتحاربة، واتهمت منظمات عدة الأممالمتحدة ومجلس الأمن بتبني استراتيجية خاسرة في هذا البلد. وبعد توصل الطرفين لاتفاق العام الماضي ينص على تعيين زعيم المتمردين رياك مشار نائبًا لرئيس الدولة سلفاكير، تبادل الجانبان أواخر الأسبوع الماضي الاتهامات بشان اختراق وقف إطلاق النار، إلا أن محللين ومراقبين لهذا الملف أكدوا أن لتجدد الاشتباك أسبابًا أكثر من كونه خطأ خرج من جانب تسبب في اشتعال المعركة، حيث يؤكد هؤلاء أن اتفاق السلام بين الجانبين هش وضعيف، مشيرين إلى أن مجلس الأمن عول لفترة أطول مما ينبغي على حسن إرادة قادة جنوب السودان، "ولوح بتهديدات فارغة بفرض حظر على الأسلحة وعقوبات فردية". وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن ما يحدث في جنوب السودان في الأيام الماضية يثبت أن استراتيجية مجلس الأمن خاسرة وفشلت، مطالبة المجلس بأن يعلن بوضوح أن "الهجمات على المدنيين غير مقبولة، وأن القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة ستستخدم كل القوة التي يسمح بها تفويضها وقدراتها العسكرية لحماية المدنيين". ويعود الصراع بين الطرفين إلى إقدام رئيس جنوب السودان سلفاكير على إقالة حكومته في ديسمبر 2013، واتهام نائبه مشار بالتخطيط للانقلاب عليه، ومنذ ذلك الحين والصراع ممتد بين أنصارهما، والذي نزح على أثره أكثر من 2 مليون شخص، حتى تم توقيع الاتفاق اغسطس من العام الماضي، الذي قضي في إبريل بعودة مشار إلى جوبا، كنائب أول للرئيس في حكومة وحدة جديدة. وأول الأسباب التي أدت إلى تجدد الاشتباكات عدم الثقة بين الطرفين والشكوك الدائمة بأن هناك محاولات منهما لسحب بساط الحكم والسيطرة عليه وإضعاف نفوذ الآخر وتحجيمه سياسيًّا، وظهر أول مؤشرات عدم الثقة عندما أقال الرئيس الجنوب السوداني نائب وزير الخارجية سيرينو هيتانق من منصبه بعد ثلاثة أشهر من تعيينه. فعلى الرغم من أن المرسوم الرئاسي الصادر بهذا الشأن لم يوضح أسباب الإقالة، إلا أن مسؤولًا بارزًا في مكتب الرئيس أكد أن القرار يعود أساسًا إلى توقيع المسؤول المقال على اتفاق يقضي بنشر قوات أممية وإقليمية داخل العاصمة جوبا دون علم أو موافقة الرئيس. ويعد سيرينو هيتانق من أبرز القادة السياسيين في البلاد، ويرتبط بمجموعة المتمردين الذين يتزعمهم رياك مشارن وكان ممن وقع اعتقالهم بتوجيهات من سلفاكير عقب ما أسمتها حكومته "محاولة انقلابية فاشلة" في 2013، ويمثل هيتانق مجموعة المعتقلين السياسيين السابقين التي حصلت على حقيبة وزارة الخارجية ضمن الحكومة الانتقالية المشكة حديثًا، ويمثل هذه المجموعة كل من هيتانق ووزير الخارجية دينق آلور. وما أغضب الرئيس سلفا كير أيضًا أن هيتانق المقال حديثًا شارك في القمة الطارئة لوزراء خارجية دول الهيئة الإفريقية للتنمية، التي توسطت في اتفاق السلام الموقع العام الماضي بين طرفي الصراع في جنوب السودان، دون علم الجهات الرسمية في البلاد، بعد أن غادر إلى العاصمة الكينية نيروبي في زيارة خاصة لأسرته. وفي ضوء ذلك لا يستبعد مراقبون أن يثير القرار الرئاسي الأخير خلافات سياسية بين هذه المجموعة والرئيس، خاصة أن القرار صدر دون إبلاغ المجموعة به. وبخلاف عدم الثقة بين طرفي الصراع الذي قد يكون السبب الأساسي، أرجع كثيرون تجدد الاشتباكات إلى عدم سيطرة القادة في الفترة الأخيرة على المسلحين التابعين لهم بصورة وصلت إلى عدم الاستجابة إلى دعوات وقف إطلاق النار بينهما. وأشارت التقارير الواردة إلى أن أوامر سلفاكير ومشار بوقف إطلاق النار لا يلتزم بها أحد؛ بسبب التركيبة العسكرية في جنوب السودان، حيث ثمة معلومات خرجت أن هناك محاولة من قادة الجيش الشعبي التابع لقبيلة الدينكا التي يتزعمها سلفا كير لنزع سلاح الضباط التابعين لقبيلة النوير في القصر الجمهوري، الأمر الذي حول الصراع الأخير إلى صراع قبلي، وأن هناك مطالبة باستقالة سلفاكير ومشار وتشكيل قيادة جديدة في الجنوب؛ باعتبار أن هذه القيادة ليس لديها سيطرة على المليشيات، ولا تتوفر لديها حسن النية. ومنذ العام الماضي، وفور وصول الجانبين إلى اتفاق، والتعليقات الواردة عن هذا الأمر تبرز أن هناك ضغوطًا واسعة من مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي على القادة السياسين للأطراف المتحاربة؛ للتوصل إلى اتفاق لتقسيم السلطة دون إرادة وموافقة حقيقيتين من الجانبين، حيث تخرج تسريبات من حين لآخر بعدم موافقة البعض، خاصة من داخل مجموعة الرئيس سلفا كير، على نصوص الاتفاق واستنكارهم لها. وأبرز ما جاء في هذا الإطار دعوة المؤيدين لسلفاكير إلى عدم التمسك باتفاقية السلام بين الطرفين؛ بسبب تحفظهما عليها، وبدء مفاوضات جديدة يجمع عليها أبناء جنوب السودان؛ لإنشاء دولة واحدة بجيش واحد، تحت قيادة رئيس الدولة وعدم تقسيم السلطات بين الجانبين. ويتخوف كثيرون والدول المجارة لهذا البلد الغني بالنفط من عدم السيطرة بصورة سريعة على المعارك الدائرة في جوبا، حيث تعيد صورة الاقتتال القبلي في جنوب السودان للذاكرة الحرب الأهلية التي مرت بها رواندا في تسعينيات القرن الماضي، عندما فجر مقتل الرئيس جوفيال هبباريمانا حربًا عرقية بين قبيلتي الهوتو والتوستي، انتهت بأعنف إبادة جماعية شهدها القرن الماضي، حيث قتل نحو 800 ألف شخص، غالبيتهم العظمى من التوتسي.