داخل طرود خشبية صدئة بالية، في غرفة منعزلة سيئة يسكنها التراب تعشش العزلة في محيط أرجائها، ببدروم جانبي أسفل مبنى البنك الأهلي القديم بوسط البلد، كان يتم تخزين ثروة قومية كبيرة ومجوهرات وقطع ملكية ثمينة ونادرة لا تليق بالزمان ولا المكان، لمدة عامين بعد نقلها من عهدة البنك المركزي إلى المتحف المصري، ولأكثر من خمسة سنوات يتم تشوين نحو 45 صندوقًا من أصل 63 هي إجمالي الصناديق الملكية المليئة بالمقتنيات والمشغولات الذهبية ومحتويات القصور الملكية العلوية الخاصة بأسرة محمد علي باشا، حتى خرجت بعض القطع والانتيكات لتعرض مؤخرًا في الإسكندرية، فيما يُعرف ب«متحف المجوهرات الملكية»، الذي أغلقته الدولة لما يزيد على 5 سنوات لدعاو أمنية وترميمه، وحين زارته الملكة السابقة فريدة، زوجة الملك فاروق، قالت: «كل القطع المعروضة بالمتحف مقلدة وليست أصلية». كان يجب بعدها فتح تحقيق وانتداب خبراء مجوهرات لفحص القطع المعروضة بالمتحف؛ حفاظًا على أصالة وتاريخ المجوهرات العلوية في تلك الحقبة من تاريخ مصر الحديث، لكن كما قال صاحب نوبل: «آفة حارتنا النسيان». ورغم صدور أكثر من قرار جمهوري من قِبَل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر لوزارة الثقافة بضرورة الانتفاع بالمجوهرات في الأغراض المتحفية، فضلًا عن توجيهاته المتكررة بالتحقيق في وقائع ظهورها بصالات المزادات العالمية، رغم التحفظ عليها ومصادرة بأمر الثورة، لكن بحسب مختصصين فإن القرار الجمهوري كان بداية دخول الثروة القومية في سراديب العزلة لعقود طويلة، وتشوينها في المتاحف ومخازن البنوك، بعد أن تم تجريد القطع الملكية من محتوياتها، بدلًا من جردها وفحصها ووصفها وعرضها متحفيًّا بما يليق بأصحابها. طرمخة رسمية على الصناديق الملكية منذ ذلك الحين تمت عملية «الطرمخة» الرسمية على محتويات الصناديق الملكية، التي تحركت من البنك الأهلي للمركزي للمتحف المصري، لمتحف الإسكندرية لينتهي بها المطاف مختفية في ظروف غامضة، وإلى وقتنا هذا لم يتم عرض المجوهرات عرضًا متحفيًّا موثقًا بمعلومة أو وصف وفحص ووزن أو كتالوج يدل على أصالة القطع المعروضة. ظهور عقد الأميرة فايزة، كريمة الملك فؤاد الأول، مرارًا وتكرارًا في مزادات عالمية إلى جانب بعض الودائع والأمانات البنكية هنا وهناك ومن أصحابها، أثار علامات اسفهام حول وجودها بحوزة أشخاص أم مجموعات أم مؤسسات وما صفة هؤلاء الأشخاص للاحتفاظ بالقطع الملكية، وكيف وصلت إليهم من الأساس؟ هذا عما يتم ضبطه، فماذا عما تم تهريبه وبيعه بالفعل؟ والسؤال الأهم: هل بعد مرور أكثر من 60 عامًا من التخزين في البنوك سواء البنك المركزي أو البنك الأهلي لم تكن عمليات الجرد والفرز والتوثيق تمت؟ تساؤلات عديدة طرحتها «البديل» وحاولت فك طلاسمها للوصول إلى إجابة واضحة وتفاصيل أكثر حول مصير القطع الملكية النادرة التي تمت مصادرتها منذ ثورة 1952 دون أن ترى النور حتى الآن؟ البحث عن 63 صندوقا في المتاحف والبنوك بعد ثورة يوليو 1952، ومع بداية حركة المصادرة العشوائية التي جرت بأمر من محكمة الثورة، لممتلكات الأسرة العلوية في مصر، بداية من الأموال والأطيان، نهاية بمناديل الجيب والملابس والقبعات وحتى الجوارب والأحذية، مرورًا بمجوهرات ملكات وأميرات ونبيلات الأسرة ومقتنيات ومحتويات قصور أفرادها، وعرض التحف والأنتيكات الملكية، التي لا تقدر بثمن في مزادات هزلية، لدرجة بيع اللوحات ومشغولات الكانفاه والجوبلان الأثرية بالدستة، وبيع مفروشات القصور والملابس والقبعات بأسواق «البالة».. لكن تبقى قضية المجوهرات الأكثر جدلًا حتى الآن. مجوهرات الملكة نازلي تنافس ملكة بريطانيا بعد جمع كل ما كان بحوزة نساء الأسرة المتواجدات في مصر لم ينج من عملية التحفظ إلَّا من كان خارج البلاد وقتها بمقتنياتهن، مثل نازلي صبري، والدة الملك فاروق، التي خرجت بمجوهراتها كاملة من مصر خلال فترة حكم ابنها لمصر وغادرت للولايات المتحدة، ولم تعد لمصر مرة أخرى، حيث تعد مجموعة السيدة نازلي صبري واحدة من أغلى المجموعات الملكية في العالم، فلم تكن تنافسها إلَّا مجموعة المجوهرات الملكية البريطانية في الندرة والقيمة المادية والفنية. كما أن الأميرة شيوه كار، طليقة الملك فؤاد الأول ووالدة الأميرة فائقة، أخت الملك فاروق من أبيه، كانت تملك مجموعة رائعة للدرجة التي كانت تغار منها بشدة نازلي صبري، وتحاول اقتناء ما هو أروع منها، فنتجت عن المنافسة مجموعتان ربما كانتا الأغلى والأقيم في العالم أجمع. القيمة الأثرية.. ابحث في «الكتالوج» ترجع قيمة المجوهرات الملكية في العالم إلى أنها فريدة تصنع بالطلب، فضلًا عن القيمة المادية العالية لاستخدام أنقى وأغلى المجوهرات في المطلق إلَّا أن كون القطعة ممهورة باسم الصانع وموثقة في كتالوجها الأساسي، مبينًا أنها صنعت خصيصًا لفلانة وبالطلب، مما يمنحها طابع التفرد، فلا مثيل لكل قطعة لدى كل سيدة من الأسرة، فتبقى كل قطعة فريدة من نوعها. وهذا يعني أن القطع الملكية لها دائمًا كتالوج يكون في حوزة صاحبها أو الأصلي، مدون فيه كل المعلومات عن القطع من حيث الوزن وعدد الأحجار والماسات وسنة الصنع حتى نوع المشبك ومرات الإصلاح، وما تم إضافته من مجوهرات للقطعة أو ما تمت إزالته منها، ومواصفات العلبة الموضوع بها واسم الصانع واسم دار المجوهرات، وغالبًا ما يكون لدى كل دار مجوهرات كبرى قائمة مماثلة بالقطع الملكية التي خرجت من عنده، لذلك فالقطع الملكية غير قابلة للسرقة تقريبًا وإن سرقت فإنها تأخذ دورتها بين الأيادي حتى تقع بين يدي الخبير الذي يدرك فورًا كونها قطعة ملكية فريدة لها كتالوج بمجرد مقارنتها بالموجود في وثائق كبريات دور المجوهرات، وهو ما حدث مؤخرًا مع عقد الأميرة فائزة، الذي تم بيعه في مزاد علني خارج مصر مع بعض القطع الملكية الأخرى من بلدان مختلفة، لكن هذا لا يمنع تفكيكها وإعادة استخدام الأحجار والماسات، لكنها تفقد بالطبع كل قيمتها التاريخية والفنية. أين التحقيقات؟ أوضح إسلام صالحين، أحد الباحثين المهتمين في استرداد القطع الملكية الثمينة، أن الأمر الأول لمعرفة مصير المجوهرات الملكية عمومًا، وجود الكتالوج مع من يقتني القطعة، مما يعني رسميًّا أن صاحبها باعها وتقاضى ثمنها، ففي تلك الحالة تصبح القطعة ملكًا لصاحبها الجديد، سواء كان دولة أو فردًا أو مؤسسة ولا حق في استردادها، مثلما حدث في مجموعة نازلي صبري، حيث باعتها بالكامل خلال إقامتها في الولايات المتحدة، واستحوذ وقتها عرش الطاووس الإيراني على نسبة كبيرة من المجوهرات القيّمة عن طريق الأميرة شاهيناز، حفيدة السيدة نازلي وابنة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي، أما الحالة الثانية التي ذكرها صالحين تتمثل في التحايل بأي شكل من الأشكال للحصول على القطعة بدون وجه حق، والسبل في ذلك متعددة ويصعب حتى سردها، فهي عملية غير قانونية في أغلب الأحوال. وبعدما تم الحجز على كل مقتنيات أفراد العائلة الملكية ولم يسمح لهن إلَّا بالاحتفاظ بما يقل عن 200 جرام من الذهب للاستخدام الشخصي فقط، تمت عملية فرز عشوائية وترقيم أكثر عشوائية وحفظها بشكل مخجل في صناديق طرود كعهدة في البنك المركزي ثم انتقلت في ظروف غامضة مرة أخرى للبنك الأهلي المصري، ثم عرضت بعض القطع والأنتيكات بالإسكندرية، ورغم شهادة الملكة فريدة حين زارت المتحف بأن كل القطع مقلدة وليست أصلية، لم يتم فتح تحقيق وانتداب خبراء للمجوهرات لفحص القطع المعروضة. ثروة قومية غير معروضة في المتاحف المعروف عن المجوهرات الملكية أنها نفائس ومجوهرات مخزنة في صناديق عددها من 44 ل70 صندوقًا كبير الحجم، بعضها صناديق تحوي وثائق الجرد الخاصة بتلك المحتويات، هذا فقط كل ما يعرفه المصريون عن تلك الثروة القومية، بالإضافة إلى المعلومات الخاصة بالعثور على بعض قطع المجوهرات الملكية سواء في طريقها للتهريب أو قبل بيعها أو حال وجودها على مواقع المزادات العالمية، مثل بيع عقد الأميرة فائزة، ابنة الملك فؤاد الأول، في مزاد عام 2012 صالة كريستيز ب4 ملايين دولار فقط. وحتى وقتنا هذا لم يتم عرض المجوهرات عرضًا متحفيًّا موثقًا بمعلومة، فقط يكتفون بهذه الكلمات التعريفية: «توجد قطعة معروضة بمتحف مجوهرات الإسكندرية»، وحين تم فتح المتحف للزيارة كتب على القطعة عبارة: «توكة شعر للأميرة فوزية» ثم تغير ل«توكة حزام»، حتى تم تغيير التوصيف ل«بروش» فهل هذا ما يطلق عليه توثيقًا.. عدا الأطقم الناقصة، فالأطقم الملكية عادة مكونة من قلادة وسوار وخاتم وقرطين ومشبك صدر وعصابة رأس إلَّا فيما ندر.