تشهد الساحة الدولية والإقليمية تطورًا سريعًا تقوده تركيا، فبعد تصالحها مع العدو الصهيوني، تتجه تركيا شرقًا نحو موسكو؛ في مسعى حقيقي للتقارب مع عدوها اللدود في المستنقع السوري. فبعد اعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مقتل الطيار الروسي في أجواء سوريا، أعلن بوتين عن بدء تطبيع العلاقات مع تركيا بعد محادثته الهاتفية التي أجراها مؤخرًا مع نظيره التركي، والتي تناولت رفع القيود عن رحلات السياح الروس إلى تركيا. تطور العلاقات كان سريعًا ومفاجئًا نوعًا ما، إذا ما تم مقارنة رجوع العلاقة السياحية بين موسكووأنقرةبالقاهرة، فعلى الرغم من وجود علاقات جيدة بين روسيا ومصر، إلا أن روسيا لم ترفع الحظر السياحي على القاهرة على خلفية سقوط الطائرة الروسية في سيناء أواخر أكتوبر الماضي، حيث طالب الروس مصر بإجراءات مشددة على مطاراتها. وعلى الرغم من أن الوضع الأمني في تركيا متدهور؛ بسبب العمليات التي يقوم بها داعش وحزب العمال الكردستاني فيها، بالإضافة إلى التفجيرات الأخيرة التي طالت بوابة السياحة التركية "مطار أتاتورك" قبل يومين، إلا أن موسكو رفعت الحظر السياحي على تركيا. ولا يمكن النظر إلى التطور السريع في العلاقات الروسية التركية بمعزل عما يدور في الساحتين العالمية والإقليمية؛ حتى يتسنى لنا معرفة ماذا تريد موسكو من أنقرة والعكس. ماذا تريد روسيا من تركيا؟ المطالب الروسية من الأتراك واضحة ومحددة، وتبدو قليلة مقارنة بما تريد تركيا من روسيا، وتتجلى مطالب موسكو من أنقرة في ملفين مهمين، الأول متعلق بالأزمة في سوريا، والثاني خط الغاز. حيث أعرب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن اعتقاده بإمكانية استئناف الحوار مع تركيا حول الأزمة السورية، وذلك في إطار تطبيع العلاقات بين البلدين، وأضاف "كانت لنا محادثات في إطار ضيق جدًّا مع تركيا حتى وقت قريب بشأن إيجاد حل في سوريا، إلا أنها انتهت جراء أسباب معروفة"، في إشارة لإسقاط تركيا الطائرة الروسية. ويبدو أن موسكو التقطت إشارات من تركيا تفيد بوجود تغير ما في موقف أنقرة من الأزمة السورية، خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء التركي الجديد بينالي يلدريم المقرب من أردوغان، بعد أيام من توليه منصبه الشهر الماضي بأن "تركيا بحاجة إلى زيادة أصدقائها وتقليل أعدائها"، في اعتراف ضمني على ما يبدو بأن سياسات سلفه تسبب في تهميش بلده. كما أن موسكو تعلم جيدًا أن تركيا قد تخفف موقفها من الأزمة السورية حتى في الملف المتعلق برحيل الرئيس السوري بشار الأسد تحت ضغط مكاسب الأكراد في الأرض السورية، وبالتالي ستحاول روسيا الضغط على تركيا؛ لإغلاق حدودها في وجه المجموعات الإرهابية التي تتخذ من تركيا منطلقًا لها. أما بالنسبة لملف الغاز فهو ملف مهم بالنسبة لموسكو، ولكن يمكن تأجيل النظر فيه حتى تضع الحرب أوزارها في سوريا، حيث يرى الكرملين أنه من السابق لأوانه الحديث عن استئناف مشروع نقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا "السيل التركي"، ويمكن أن يشكل ملف الغاز منفذًا آخر؛ للضغط على الحكومة التركية، خاصة أن روسيا تنظر في خيارات أخرى لنقل الغاز إلى أوروبا، حيث وقعت شركة الغاز الروسية "غازبروم" مع شركاء إيطاليين بروتوكول نوايا حول دراسة إمكانية نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر المسار الجنوبي، الأمر الذي قد لا ترغب تركيا في حدوثه. ماذا تريد تركيا من روسيا؟ تركيا تبحث عن حلول كثيرة لمشاكلها في موسكو، فالرياح الإقليمية في سوريا لا تسير كما تشتهيها السفن التركية، كما أن العواصف التي تضرب الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه جعلت أنقرة تفكر مليًّا بجدوى التعويلعلى هذا الاتحاد المهدد بالانهيار في حال تنفيذ دول أوروبية أخرى تهديدها بالانسحاب منه. وفي جميع الأحوال فإن الاتحاد يرفض منح تركيا العضوية، كما أن خلافاتها مستمرة مع الاتحاد، فالاتحاد الأوروبي ما زال غير مقتنع بالجهود التركية في تقويض أزمة اللاجئين السوريين، الأمر الذي دفع أردوغان إلى محاولة تنظم بلاده استفتاء حول مواصلة إجراءات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي من عدمه، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من روسيا حليفًا مستقبليًّا مهمًّا لأنقرة، خاصة ان الاتحاد الأوروبي نفسه يسعى في الآونة الأخيرة للتقارب مع روسيا. أمريكا والأكراد تعاني تركيا بالفعل من أزمة حقيقية في سوريا، فجميع خيارات أنقرة في سوريا تندرج تحت الخيارات المرّة، فإذا رحل الأسد، فهذا يعني أن سطوة الأكراد ستزداد في سوريا، فسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على أراضٍ في شمال سوريا قد تساهم في تمرد حزب العمال الكردستاني الذي خاض صراعًا مسلحًا في جنوب شرق تركيا لمدة 30 عامًا، حيث لا تنفي الجماعتان الصلات التي تربطهما، فحزب العمال الكردستاني أسس وحدات حماية الشعب باعتبارها تنظيمًا سوريًّا قبل 10 سنوات، ويتبنى الاثنان فكر عبد الله أوجلان الذي قاد حزب العمال منذ تأسيسه. كما أن الخيار الأمريكي الذي كانت تراهن عليه أنقرة تبخر، خاصة بعد أن ركز التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة وجهته لمحاربة تنظيم داعش دون التركيز على إسقاط النظام السوري، وما زاد الطين بلة بالنسبة لأنقرة أن واشنطن دعمت الأكراد لمحاربة داعش، الأمر الذي قد يدفع تركيا باتجاه موسكو، فلا فرق كبير بين خيارات روسياوواشنطن في سوريا بالنسبة لأنقرة، طالما أن هناك اتفاقُا ضمنيًّا بين القوتين العظميين على عدم الاقتراب من الأسد، بل على العكس تقارب أنقرة من موسكو أهم من تقاربها من واشنطن، فملفات الطاقة النووية والغاز تجمع بين تركياوروسيا، حيث من المقترض أن تشيد روسيا محطة "أكويو" الكهروذرية في تركيا، وبالنسبة لمشروع غاز "السيل التركي" فيهدف لنقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود، ومنها إلى أوروبا، حيث من المتوقع أن تبلغ القدرة التمريرية له نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. السياحة يبحث أردوغان في موسكو أيضًا عن حلول لإنعاش قطاع السياحة الذي تلقى ضربة في مقتل بعد تفجيرات مطار أتاتورك، ورفع روسيا للحظر الذي كانت تفرضه على السياحة في تركيا يعد بمثابة انسياب الدم في الشريان التركي، خاصة أن السياح الروس كانوا يشكلون القسم الأكبر من السياح الأجانب في أنقرة. شخصية أردوغان وطموح الرئاسة من الأسباب المهمة أيضًا سبب متعلق بشخصية الرئيس التركي نفسه، فأردوغان الطامح لجعل منصبه الرئاسي في تركيا منصبًا تنفيذيًّا وليس شرفيًّا سيبذل كل جهده لأن يقدم نفسه بطلًا أمام الشعب التركي، ولن يتم له ذلك إلا بتصفير مشكلاته مع الدول المؤثرة في المنطقة، الأمر الذي سيدفع أردوغان لتقديم أي تنازل، سواء مع قتلةامتداده الأيديولوجي في غزة "حماس"، وهو العدو الصهيوني، أو مع غريمه التقليدي في سوريا، وهو الدب الروسي، خاصة أن الإرهاب الذي بدأ يطال المرافق الحيوية في تركيا كالمطارات سيشكل عقبة حقيقية في وجه الرئيس التركي إذا ما أراد أن يتولى زمام الحكم في تركيا على أساس رئاسي وليس برلمانيًّا، فتوفير الأمان والاستقرار من أهم مقومات الدولة، وهو الأمر الذي قد توفره موسكو في حال تمكنها من القضاء على داعش في سوريا.