تقول الحكمة القديمة "تكلم حتي أراك", فكلامك قد يكشف عن مدي عمقك أو مدي تفاهتك, وقد يسأل سؤالا يحتاج إلى إجابة, وقد يطرح إجابة لسؤال محير, وقد يكشف كلامك جزءا من البقعة العمياء لدي غيرك, وقد يحكي جزءا مجهولا من قصتنا نحن البشر, لكن ليس لتلك الحكمة فيما يبدو موقعا في بلد كفر بجل التراث الإنساني وحزم قيمه ومبادئه التي دفع البشر كلفة ثقيلة لقبولها وللتعرف علي تبعات التخلي عنها, السلطة الآن في مصر تقول ببساطة لا تتكلم فأنا لا أريد أن أراك ولا أريد أن أعرف بوجودك. "يابني ما تنطق كلام.. دا اللي ميتكلمش يا كتر همه" هكذا قال جاهين, ولأن مساحة الكلام المسموح تتلاشي شيئا فشيئا, ومساحة الهموم تتسع وتكاد تبتلعها وتبتلعنا نحن أيضا, ومع زيادة الهموم يزداد إصرار السلطة وجمهورها على حصار الكلام؛ لأنه ينكأ الجراح, وهي جراح كثيرة, فمصر الآن أشبه بمصاب حرب يخشى معاودة الطبيب فزعا من ألم الفحص وألم ملامسة الدواء للجروح الغائرة, وهي الجروح التي لن يطول بها الزمن حتى تتقيح وتجهز على ما بقي من أشلاء هذا الجسد المريض. يقولون أيضا أن علو صوتك هو دليل علي ضعف موقفك, لكن ليس هذا الحال هنا, فالأصوات عالية وليس ثمة مواقف, فما نراه هو محض مكايدات وقعقعة بلا طحن, فالمعارضة التي هي تحت الحصار صار مجرد إحداثها الضجيج هو الوسيلة الوحيدة لإثبات أنها موجودة, ربما لهذا لا تطرح تلك المعارضة شيئا ذا أهمية مؤخرا, فهي منشغلة بتأكيد عدم انسحاقها عبر إحداث الضجيج, وإن كان من الممكن أن يتفهم المرء ذلك بسبب أجواء القمع وتقزم مساحة التعبير وانخفاض سقف ما تتغاضي عنه السلطة وارتفاع كلفة ما لا تتغاضي عنه, فإنه لا يمكن تفهم موقف جمهور السلطة الذي يملأ الدنيا صراخا ولا يقول شيئا, وهو تطور يدعو للذعر إن شئنا الحقيقة, فهذا الجمهور الذي كان يصرخ قبل عامين لأجل شيء في يوم, ويعاود الصراخ من أجل نقيضه في اليوم التالي, صرنا الآن لا نسمع منه إلا صراخا لا نميّز له جملا مفيدة, هو صراخ ليس مع أي شيء وإن بدا مع كل شيء, وليس ضد أي شيء وإن بدا ضد كل شيء, هو شيء كالتشنجات أو كاللبس بالجن والعفاريت إن كان هناك ثمة شيء كهذا حقا, وهو أمر ليس من قبيل المواقف المتشنجة التي تتسم بالعصبية وكثرة الصراخ, فالمواقف المتشنجة هي في نهاية المطاف مواقف قد يُساء التعبير عنها أحيانا, فالبعض له مواقف من الأمن القومي مثلا قوامها قد يحمل كثيرا من الشوفينية, وقد يتم التعبير عن تلك المواقف بديماجوجية في أحيان أكثر, كأن يتم توزيع صكوك الوطنية والخيانة علي الأشياع والخصوم في كل موضع اشتباك في الرحلة, لكن سلوك كهذا في النهاية هو موقف يدّعي التمسك بالأرض والحيلولة دون خسارة العمق الاستراتيجي مثلا, ناهيك عن اعتباره التفريط في أرض تقع ضمن السيادة بصرف النظر عن نزاع ملكيتها -إن وُجد- جريمة نكراء, لكن ما نراه مؤخرا من السلطة وأشياعها يحمل صراخا عنيفا من أجل الشيء ونقيضه في آن ومن ذات الأشخاص, وهنا ينعدم الموقف ويصبح الأمر محض تشنجات لا يفهمها أحد ! ثنائية ضجيج المعارضة وتشنجات السلطة وجمهورها كان الأمر المألوف في كل اشتباك مؤخرا حول أي شيء, المعارضة ترفع راية المكايدة وتعاير السلطة بفشلها في ضفة, والسلطة تتشنج وتدخل في نوبات جنون شديدة الأذي في الضفة الأخرى, حدث هذا وقت كارثة الطائرة الروسية, ووقت اختطاف الطائرة المصرية في قبرص, وحين تنازلت السلطة عن تيران وصنافير, وحين اشتعلت العتبة, غير أن الأمر الآن مختلف قليلا حين نتحث عن الطائرة المصرية المنكوبة, فمن أتابع مواقفهم من طيف المعارضين تراوحت مواقفهم بين الصدمة والترحم علي الضحايا وبين طرح الأسئلة عن كثير من الأخطاء التي رافقت إدارة الأزمة, إلا أن هناك شيئا ما جري بدا خارج السياق, فقد رأيت حملة يقودها الكثيرون استنكارا لموقف من شمت في الضحايا الأبرياء, وهنا لا يمكنني الجزم بحدوث أمر مشين كهذا إذ لم أري شامتا بأم عيني, وهو أمر لو حدث من أي طرف فهو محض تشنجات لا موقف, فالمواقف الأخلاقية أو السياسية أو حتى الانتهازية أو غير السوية منها يحكمها في النهاية معايير المكسب والخسارة أو الرغبة في تحقيق شيء أو الحيلولة دون حدوث نقيضه, فالمواقف المعلنة هي مخاطبة للناس لنيل دعمهم أو تأييدهم أو تضامنهم أو استمالتهم أو حتى لإبراء الذمة قياسا على تغيير حتمي سيحدث ستكون لتلك المواقف مكاسب أو أهمية ما وقتها, ولا أدري هنا أي مكسب سيناله من يتشفى في مواطنين عزّل لا يعرفهم أصلا، سواء كانت تلك المكاسب آنية أم متوقعة مستقبلا! لا أستطيع الجزم علي وجه اليقين إن كان هناك من شمت في ضحايا لا يعرف حتى أسماءهم أو حتى قد يعتقد أن هناك سمت ما يجمعهم يضعهم في خانة الأعداء الذين يتمني هلاكهم, لكن بمقدوري أن أجزم أن هذا لم يكن سلوك قطاعات معتبرة يمكننا الإحساس به كعادة السلوكيات غير السوية تلك التي تفاجئنا مؤخرا من قطاعات كبيرة من هذا المجتمع المأزوم, كما يمكنني الجزم أن الحملة التي تُشن تحت عناوين "لا للشماتة في الضحايا, ولا لاستغلال الكارثة سياسيا" هي أيضا محض تشنجات, فإذا كان هذا موقف أخلاقي تضامنا مع حق الضحايا واحتراما لمشاعر ذويهم, فالتساؤلات المشروعة عن سبب الكارثة وعن جهود الإنقاذ وعن كفاءة التنسيق بين الأجهزة المنوطة بإدارة أزمات كهذي هو عين التضامن مع حق الضحايا الأبرياء وعين الاحترام لمشاعر ذويهم, والأغرب أن أغلب من يطالبون الناس بالصمت حدادا علي الكارثة, لم يمنعوا أنفسهم من استغلال الكارثة وإعلان تأييدهم المطلق للسلطة, وكأن التأييد الكامل والصمت هو ما قد يمنع حدوث كوارث مماثلة أو ما قد يأتي بحقوق من قضوا ! وظني أن كلتا الحملتين سواء تلك المزعومة التي تشمت في مآسي الأبرياء, أو تلك التي تستغل المآسي طلبا لتأييد مطلق أو مطالبات بالخرس الكامل, لا تخرجان عن تشنجات تصدر من ذات المعين ومن ذات المعسكر, وهو ذات المعسكر الذي ظل لنصف عقد يتحايل للهروب من الأزمة ويتنصل من تبعاتها ودفع كلفتها ويقطع الطريق علي أي نقاش جاد يتلمّس حلها, وهو ذات المعسكر البائس الذي يزداد بؤسا بفعل الأزمة التي هو أحد أسبابها في الأساس!