قبل أن تقرأ، سأسألك سؤالا وأرجوك رجاء: هل تذكر كيف كان الإعلام الرسمي يصف متظاهري التحرير قبل تنحي مبارك؟ وكيف تغير حديثه بعدها؟، (فكر في الإجابة قليلا، لأني بناء على هذا)، أرجوك الآن أن تمسح دماغك تماما من كل ما لقنك إياه الإعلام الرسمي، فشهادته باطلة. فعلت هذا؟ تعال معي إذن، وبهدوء.. (1) هل تذكر هتاف الآلاف في الميادين: “الشعب والجيش إيد واحدة”، وكيف تحول إلى “يسقط يسقط حكم العسكر”؟. طيب، هل تفكر في المقارنة بين مشهد جندي الصاعقة وهو يؤدي التحية العسكرية لجثمان الشهيد مصطفى أحمد حسن (أصيب برصاصة في جمعة الغضب، واستشهد بعدها بستة شهور)، خلال عبورها أمام مجلس الشعب آتية من ميدان التحرير؛ وبين مشهد زميله، أو ربما هو نفسه، وهو يسحل فتاة في نفس الميدان، وينهال على طهر جسمها العاري بغضبه المدنس؟. مشهدان متوازيان، يلخصان بوضوح كيف تغيرت قواتنا المسلحة، وانتقلت من مساندة شعبها كتفا بكتف، إلى معاداته وجها لوجه. من يتحمل مسئولية هذا التغير، قانونيا وأدبيا وتاريخيا؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك وحاول أن تضع احتمالات). تعال نفكر: ما الذي يدفع جنديا كنا نقابله بالأحضان ويقابلنا بالبسمات قبل شهور، إلى أن يتعامل بكل هذا العنف مع بني شعبه؟ كيف كان يبرر لنفسه هذا الغضب المتوحش إزاءهم؟ أي فكر مسموم تم تلقينه إياه؟، وأي حديث هذا الذي جعل عقيدته تتحول، وللمرة الأولى في تاريخ مصر، مصر التي تحمل في ذاكرتها سبعة آلاف عام من الحضارة، من مواجهة العدو المسلح، إلى دهس الشقيق الأعزل؟، ومن يتحمل فاتورة هذا حين تستعيد كتب التاريخ هذا المشهد؟. لن يتحدث أحد الآن عن “تصرف فردي”، ولا عن “استفزاز”، فمن يقل هذا عليه أن يجيب أولا عن التساؤل البديهي: لماذا لم نر تصرفا فرديا يليق بكرامة قواتنا المسلحة حين حصد الرصاص الإسرائيلي أرواح جنودنا على الحدود؟، ولماذا ابتلع الجندي استفزاز العدو وهو يرى جثث زملائه هناك، ولم يتقبل تظاهر الأخ طلبا للحقوق هنا؟. الأكثر منطقية وقبولا لدى العقل، أن ضبط النفس على الحدود هناك سبقته تهيئة نفسية تجعل من العدو صديقا، أما “الاستفزاز” هنا، سبقته تهيئة نفسية أخرى، تجعل من الشقيق عدوا. من يستطيع فعل هذا؟ ولصالح من؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك، وحاول أن تضع احتمالات). (2) بعد سقوط مبارك، ومع ما ظهر من حجم الفساد، لعلك أدركت – كالملايين غيرك – أن حاكمنا لم يكن أمينا علينا، فالرئيس المخلوع، ونظامه تعمدوا سحق بلادنا تماما، وعلى كل المستويات: بدءا من اضطهاد العلماء وقهرهم حتى يزهقوا فيهاجروا، وتقصّي الانتماء في نفوس الأبناء وسحقه وقطع كل صلة تربطهم بماضيهم، وتشويه المناهج التعليمية بحيث تقتل روح الإبداع في الأجيال الطالعة، وسرطنة التربة، وبيع المشروعات الناجحة بتراب الفلوس، وملاحقة الشرفاء ذوي الضمائر الصاحية وحبسهم أو إعدامهم معنويا، وحتى القضاء على ثقل الدولة السياسي ودورها بين جيرانها، وتسييس مواقفها بما يوافق مصالح الأعداء فقط، وفي كل هذا فساد تمتد آثاره لعشرات السنين، لصالح من؟ ومقابل ماذا؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك وحاول أن تضع احتمالات). جاءت الثورة، لتكون فرصة سانحة لاستدراك كل هذا، وتغييره، ولتعيد الميزان المقلوب لوضعه الصحيح. ألست معي في هذا؟ إذن، ماذا تسمي من يحاول جاهدا إعادتنا للوضع القديم إن لم يكن لما هو أسوأ؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك، وحاول أن تضع احتمالات). إذا كنا اتفقنا أن رئيسنا المخلوع لم يكن يضع مصلحة بلاده في حسبانه، بل وخلاصة عصره أنه بهدل كل شيء جميل في البلد، وحولها إلى خادمة في بلاط أعدائها، وجعل على كل مؤسساتها الحيوية أتباعا على نفس شاكلته، كيف تضمن أن قيادات المؤسسة العسكرية نجوا من هذا التخريب والإفساد الممنهج؟، هل تعرف على أي أساس اختير أعضاء المجلس العسكري؟ وأي مؤهلات جاءت بهم لهذا المنصب؟ من حقك، بدم من قدمنا من شهداء، وباسم أولادك الذين يستحقون من بلدهم احترام آدميتهم كما ينبغي، أن تطالب بإعلان هذه المعايير، ويكون لك حق في قبولها أو رفضها، أليست هذه بلدك؟، وفيها مستقبل أولادك؟. لا تنزعج، فأنت بهذا لا تهدم “آخر عمود قائم في البيت”، لأنك أنت العمود الحقيقي الوحيد في البيت، وهم يريدون أن يهدموك، كما نجح كبيرهم طوال ثلاثين عاما، لولا أن أحياك دم الشهداء. (3) لا تصدق أن المجلس العسكري حمى الثورة، من يقل لك هذا اسأله: حماها من ماذا؟، إذا كان قائدهم أقسم أمام المحكمة أنه لم يتلق أمرا بإطلاق النار على المتظاهرين؟ ها؟ راجع كل تصرفات المجلس العسكري، منذ 11 يناير وحتى الآن، ألا تراها تسير في خط واضح، بدأ بفرملة الاحتجاجات وتضييق نطاقها لأصغر ما يمكن، ثم احتواء قوى الثورة، وبث الفرقة بينها، ثم تشويه من لم يستطع احتواءه منها، واستعداء الشعب عليهم، واتهامهم بعيوبه؟. لعلك تذكر كيف عاشت مصر، في الأسابيع الأولى بعد خلع مبارك، حالة من النشوة لم نعشها من قبل، وبدت آثارها واضحة على كل الملامح، كانت نفوس الناس أكثر صفاء، ورغبة في التضحية والعطاء، خرج الصبية والأطفال يكنسون الشوارع، وخرجت عشرات المبادرات لإصلاح أوضاع لم يكن لدينا طاقة تفاؤل تدفعنا للتوقف أمامها، وظهرت مشاريع كبرى، وشهدت غالبية المؤسسات محاولات جادة للتطهير ونفي الخبث. هل تذكر هتافنا: ارفع راسك فوق إنت مصري”، بالله عليك، هل تستطيع أن تهتفه الآن بنفس القوة والثقة والشموخ؟، هل تعرف السبب؟ (توقف من فضلك قليلا.. اسأل نفسك، وحاول أن تضع احتمالات). لا زلت أذكر موقفا عابرا في منطقة شعبية، كاد يبكيني من فرط رقته: عجوز أراد ركوب الميكروباص، لكن شابا سارحا زاحمه فاصطدم بكتفه دون قصد، صرخ العجوز: حرام عليك، ده احنا ف ثورة. يا الله، كم عظيم هو هذا الشعب، وعبقري. فلنعد لحديثنا: هل ترى الآن شيئا من تلك الروح المتوهجة؟ أين اختفت؟، ومن المسئول عن وأدها؟، ولمصلحة من؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك، وحاول أن تضع احتمالات). (4) سؤال بسيط: ما الهدف الأول والأسمى لأية سلطة حاكمة؟ جواب أبسط: أن تضمن لمواطنيها حياة كريمة، وهذا يتلخص في: عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، وكانت هذه أولى مطالب الثورة. أنفقنا أكثر من ألف روح، وأضعافهم من المصابين، وننتظر الكثير مقابل هذا، هذا حقك يا مصري وليس لأحد أن يحرمك منه. ومن يحاول يكن يستعديك، وعليه أن يعي هذا ويدرك فداحته. بذل الشهداء أرواحهم مقابل ماذا؟ مقابل حرية كاملة غير منقوصة، وكرامة كاملة غير منقوصة، وعدلا تاما، ومؤسسات خادمة للشعب لا متسلطة عليه، ووضع أسس قويمة لبناء دولة من أعظم الدول. الآن، وبعد عام من الثورة، هل تحقق شيء من هذا؟ انظر إلى مشهد الجنود الذين سحلوا شبابنا وقتلوا بعضهم بما يليق من فجر ومن بغض، هل عرفت من هم؟ هل سمعت شيئا عن التحقيق معهم أومحاكمتهم؟ أو من أمرهم بالقتل؟. طيب، هل تذكر قصة “الحواوشي المسمم”؟ توصلت الداخلية إلى السيدة التي وزعته، من صورة مشوهة لسيارة بلا أرقام، كيف إذن لم تتوصل للقتلة مع كل هذا الكم من الصور ومقاطع الفيديو؟ من يحمي المجرمين؟ من يصر على إبعادهم من العقاب؟ ولمصلحة من؟ (توقف قليلا.. اسأل نفسك، وحاول أن تضع احتمالات). (5) سأحكي لك موقفا، رواه صديق كان يعمل في أحد فنادق الغردقة، قبل سنوات، بطله المستشار الألماني حينذاك، جيرهارد شرودر (الحاكم الفعلي لألمانيا) ومواطنة ألمانية عادية. يقول الصديق – والعهدة عليه – أن شرودر، نزل المدينة السياحية في أجازة، ولم تجد إدارة الفندق جناحا يليق به، فاضطرت لإلغاء حجز لمواطنة ألمانية مجاملة له، وفي ظنها أن الأمر سيمر بشكل عادي، ولن يحس به أحد. غضبت الألمانية، واستماتت لمعرفة سبب الإلغاء، وبعد إلحاح أخبرها أحد مدراء المكان أن الفندق تلقى طلبا من شخصية ألمانية هامة (لم يفصح لها عن هويتها) بحجز جناح، والإدارة لم تجد مكانا يليق به غير جناحها. كان المدير يتوقع خنوعا من الألمانية، لكنها ازدادت ثورة، وأصرت على الوقوف في بهو الفندق لساعات حتى تعرف من هي “الشخصية الألمانية الهامة” التي تسببت في طردها من جناحها، حتى أطل عليها وجه شرودر، حينها وقفت في وجهه صارخة: صوتي هو الذي أوصلك لمنصبك هذا، وأشكرك أنك أحسنت استغلاله. بوغت شرودر، وبعد لحظات استوعب الموقف، فأخذ يعتذر للسيدة ويستسمحها، ويقسم لها أنه لا يعرف شيئا مما حدث، وأنه طلب الحجز بشكل عادي، وأن إدارة الفندق أساءت التصرف لا هو، كان يعتذر بصدق، ويطلب رضاها بصدق، لكنها كانت مصرة على موقفها، وحملت حقائبها وانصرفت. بدوره، ألغى المستشار الألماني حجزه، ورفض الإقامة في الفندق. هكذا هي كرامة الفرد في البلاد التي تحترم مواطنيها، وهذه هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ألا تشعر أنك تستحق من بلدك بهذا التقدير؟ وأن هذا هو حقك الطبيعي؟، إذا كنت مؤمنا بهذا، فماذا تفعل إزاء من يحاول استعبادك، وسحق إنسانيتك، وحرمانك من حقك في كرامة وحرية وعدالة؟ سأجيبك أنا هذه المرة، انزل يوم 25 يناير، ولا ترجع قبل أن تأخذ حقك، وحق من ماتوا لنحيا.