في صبيحة يوم الاثنين 16 مارس 2015 بعد ساعات من ختام فاعليات مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، كانت الجماعة الصحفية المصرية على موعد مع سابقة تاريخية حين ظهر للمرة الأولى في تاريخ الصحافة المصرية مانشيت موحد للصحف كافة بالكلمة والحرف والتشكيلة وهو «مصر تستيقظ الآن»، هي سابقة لم تكن قد رأتها مصر قبلًا في حوادث جلل، كحرب السويس أو الجلاء الإنجليزي أو انتصار أكتوبر أو اغتيال السادات، وما يدعو للأسف أن الأمر مر مرورًا كريمًا على مقر نقابة الصحفيين الكائن في 4 شارع عبد الخالق ثروت، الذي يدعو لمزيد من الأسف أن الجماعة الصحفية لم تجد غضاضة في أن تشارك في أمر مهين كهذا لمهنة الصحافة، بل ولم تجد الغالبية الساحقة من الجماعة الصحفية غضاضة في الدفاع عن الأمر، حتى في جلساتهم الخاصة، باعتبار أن أمرًا كهذا يصب في صالح الجماعة الصحفية ويضفي حماية استثنائية على أعضائها في وقت صار فيه الأمان البدني والنفسي لأي مواطن أمرًا غير مضمون، ولأي علة حينًا وبلا علة أحيانًا كثيرة! غير أن مانشيت «مصر تستيقظ الآن» لم يكن تطورًا مفاجئًا، كما لم يكن اقتحام مقر النقابة مفاجأة أيضًا، وإنما كانا تتممة سلسلة من التنازلات التطوعية قدمها الإعلام المصري والجماعة الصحفية المصرية ومجمل النخب السياسية المعارضة للإخوان في أعقاب 3 يوليو 2013، تلك السلسلة التي بدأت بتنازلات تطوعية كعرض خدمات من البعض، ومطالبات لسلطة التي كانت قيد التشكيل وقتها، بالمبادرة بوضع قيود وخطوط حمراء لما يُكتب في المطبوعات أو يقال على الشاشات من البعض الآخر، ولم يكن يتم هذا بصورة سرية أو عبر اتصالات جانبية مع قيادات أمنية، بل كان نجوم برامج التلفزيون يطالبون به علنًا في برامجهم وعلى شاشاتهم وبلا مواربة ودون خجل، ووصل الأمر إلى أن كبار المستثمرين في الصحافة والإعلام بادروا بحجب برامج ومنع إعلاميين من الظهور على الشاشات، ومنع نشر مقالات تطوعًا ومحبة أو «نقطة» بعرف أفراح المحروسة! وكما تطوعت الجماعة الصحفية بتقديم التنازلات مبكرًا، تطوعت النخبة السياسية بتحمل وزر خطايا لم تكن أصلًا طرفًا فاعلًا لا في نقاشها ولا في تنفيذها، ولا أدل على ذلك من أن تتحمل حكومة الببلاوي التي شملت بين أعضائها قيادات الأحزاب الإصلاحية المسؤولية السياسية عن معالجة ملف أزمة الإخوان واعتصاماتهم في ميادين رابعة والنهضة، دونما أن يكون لدى لتلك الحكومة حتى أبسط المعلومات عن تطورات الأزمة أو عن جهود الوساطة أو أن تُقدّم لها حتى تقارير مختصرة لما تم في شهر ونصف الشهر، هي مدة المفاوضات بين الجيش وقيادات الاعتصام بوساطات أجنبية، ولم تقتصر التنازلات المهينة لقيادات الإصلاحيين عند هذا الحد، بل إنهم تطوعوا بالصمت عما حدث لأعضاء أحزابهم من بطش واعتقال، عندما قرر بعضهم التظاهر أمام مجلس الشورى، لرفض بعض المواد الدستورية التي كان تناقشها قياداتهم الحزبية داخل الجمعية التأسيسية، وقتها اعتقدت النخب السياسية أن اتصالاتهم بقيادات أمنية قد تنهي القصة وتحل المشكلة، وتصوروا أن ما قدّموه من تنازلات ربما يكون شفيعًا لمعاملة استثنائية لأعضاء تنظيماتهم, غير أن هذا لم يحدث، بل ما حدث حقًّا هو ذلك الخروج المهين من الوزارة في أعقاب اتصال هاتفي في مساء متأخر اضطرهم للخروج باستقالتهم في منتصف ليلة 24 فبراير 2014، وهو أمر لا يحدث مع أي حكومة إلَّا لأمرين الأول أن تكون قد ارتكبت كارثة تستدعي إقالة عاجلة، وهو ما لم يحدث وقتها بمعايير ما بعد يونية على أي حال، أو أن يكون الأمر متعمدًا بهذا الشكل وبذلك الإخراج إمعانًا في إهانة حفنة المستسلمين هؤلاء من قِبَل من استخدمهم كمناشف مرحاض وألقى بهم في سلة المهملات التي تليق بهم كمناشف متسخة! لقد استسلمت النخب الصحفية والإعلامية والسياسية والمتثاقفين والمتعالمين مبكرًا وبلا شروط وبلا مقابل، وقفزت على حقائق دامغة على بؤس من أيّدوه واعتبروه المخلّص الذي سيعيد بناء مصر الحديثة, رغم أن الرجل كان واضحًا منذ البدء عندما صرّح بأنه «نار» حسب تعبيره، وكان فقر خياله وفقر مواهبة باديين لكل ذي عينين، فمن اعتقد أن رؤية في منامه هي مصدر شرعية حكمه، ومن اعتقد أن حلحلة أزمات الدولة قد تتحقق عبر تكرار تعويذة ل999 مرة هو محض أحمق لا ينتمي لعالمنا هذا ولا لسياقنا الزمني هذا، غير أن كل النخب راهنت على أمانيها هي لا على ما أمامها من معطيات, وليس هذا هو أسوأ ما في الأمر، فعادة ما يفقد المذعورون القدرة على تقدير الأمور في لحظات الصراع، وقد ابتلانا الله بكثيرين منهم في مواقع النخبة واتخاذ القرار، لكن الأسوأ بكل تأكيد أن يشرع المذعورون في التعامل مع أمانيهم باعتبارها الواقع، ومع الوقت كلما اصطدموا بقسوة الواقع ازداد نفورهم من حقيقته، وازداد تمسكهم بأمانيهم التي تصير مع الوقت واقعهم هم، وهذا ما حدث! غير أن هناك لحظات كاشفة كفيلة بإفاقة المذعور من واقعه الافتراضي الذي نسجته أمانيه وهلاوسه، واللحظات الكاشفة تلك تتفاوت قدرتها على إيقاظ الواهمين، فمنها لحظات كارتقاء الخرافة سلم البيروقراطية العسكرية؛ كأن يصبح مشعوذًا كإبراهيم عبد العاطي، لواءً طبيبًا مكلّفًا، كان كفيلًا بإفاقة البعض، وصدمات الفناكيش الدولاتية المتتالية كانت كفيلة بإفاقة البعض الآخر من الغيبوبة، غير أن الغالبية لن تفيق من سباتها الإرادي وإنكارها للواقع المرير الذي تأبى أن تراه، وإفاقة هؤلاء عادة لا تأتي إلَّا عندما يطولهم الأذى بشخوصهم وفي أبدانهم أو في أعمارهم أو في معايشهم هم، وهو ما يحدث الآن مع المحامين ومع الأطباء ومؤخرًا مع الصحفيين، وبالطبع هناك من لن يستيقظ أبدًا, وهذا لن يكون مآله أفضل من مآل كلب معصوب العينين تثير عداءه الأصوات من حوله، فيثب إلى مصدرها كلما التقطتها أذناه إلى أن يسكن العالم من حوله فجأة، فيشعر بالانتصار، عندها فقط سيرفع عصابة عينيه ليكتشف أنه قد صار وحيدًا وقد أكل فخذيه، عندها فقط سيدرك أنه لم يعد يقوى على مغادرة بقعة الأرض التي تغطيها دماؤه! إن كان ثمة شيء كان يجب أن تتعلمه تلك القطاعات المستيقظة، فهو بكل تأكيد أننا في وطن لا يشبه العالم، تحكمه عصابات لا تنتمي لهذا الزمن، عصابات تنتمي لتلك الحقب، حين كانت حروب الغزاة هي ما تحسم صراعهم مع من يسكنون الأرض، وحين كان حسم الصراع لا يعني إلَّا شيئًا واحدًا، هو استسلام السكان غير المشروط، لهذا وبعُرف الماضي الذي نعاود عيشه مرارًا على أيدي المماليك المتأخرين هؤلاء، فلا يمكنك التفاوض أو تقديم التنازلات بعد الاستسلام، فبمجرد استسلامك قد صرت في ذمة من سلّمت له بدنك وأهلك وما تملك, ولم يعد هناك ثمة مجال للمراوغة أو المناورة أو كتابة الشروط، في ظرف كهذا إن لم يكن بإمكانك الانتصار، فلا أقل من أن تحتل مواقع مقاومة، والأهم أنه لا يمكنك بأي حال إخلاء تلك المواقع بلا معركة!