قبل مناقشة أي تفاصيل خاصة بقرارات ولجان مجلس الشوري ودور نقيب الصحفيين الحالي في التدبيرات التي تجري لإحكام قبضة الحزب الحاكم الحالي علي الصحافة القومية. يجب فهم الإطار والمنهج في سياقه العام, وليس ما يتعلق بالصحافة إلا جزء من كل, أما الكل فهو تغيير هوية الدولة المصرية. إننا في مواجهة تنفيذ مشروع متكامل يعبر عن رؤية جماعة الإخوان التي عملت أكثر من ثمانين عاما للوصول الي هذه اللحظة التاريخية, الفاصلة بين نمطية من الدولة المصرية, الأولي يجري تفكيكها الآن, لإنهاء دورها التاريخي, إنها الدولة الحديثة التي تأسست منذ تولي محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر, وكان الجيش المصري عماد هذه الدولة, ومنه بدأت الحداثة واستمرت فيما تلا ذلك بأطوارها المختلفة وصولا الي ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر, وبرغم أنها كانت ضد حكم الأسرة العلوية, إلا أنها في جوهرها كانت إحياء لمشروع محمد علي الذي تشابه في جوانب عديدة مع تجربة عبدالناصر حتي عام.7691 التيار الآخر المواجه هو الداعي الي نموذج آخر للدولة الدينية, نقيض لتلك التي قامت بالفعل من خلال جهد محمد علي باشا وما تلاه من أطوار, مرورا بالخديو إسماعيل والثورة العرابية, ثم الاحتلال الانجليزي, وصولا الي الثورة المصرية العظمي في9191, والتي تتشابه مجرياتها مع ثورة يناير1102 تعيسة الحظ والظروف. صعدت الجماعة من خلال حزب الحرية والعدالة بسرعة لتحقق اكتساحا في الانتخابات البرلمانية بالتحالف مع السلفيين الذين برزوا كقوة فاعلة, ثم تحققت النتيجة نفسها مع مجلس الشوري الذي لم يكتمل تكوينه بعد, وقد يواجه نفس مصير مجلس الشعب المنحل بقرار من المحكمة الدستورية العليا. لقد تم ظهور هذا المجلس الشكلي في مرحلة الرئيس السادات, وكان ظهوره لإيجاد سبب يبرر ملكية الصحف القومية المؤممة في بداية الستينيات, والتي كانت توفر الدعم الاعلامي للنظام في مراحله المختلفة, والي ما بعد ثورة يناير, حيث جرت عملية تغييرات ايجابية تعتبر بداية اصلاح في تلك المؤسسات, إذ جري اختيار قيادات جديدة اختلفت أوضاعها تماما عن بعض القيادات السابقة التي ووجهت بمقاومة من الصحفيين, وكان يمكن أن تمضي الأمور في تطور الاصلاح الداخلي النابع من الصحفيين أنفسهم, ولكن تمكن حزب الحرية والعدالة( جماعة الاخوان) كان قد بدأ بالفعل, وبدأ هذا الحزب يتحرك بسرعة من خلال مجلس الشوري الذي انتخب دكتورا صيدليا رئيسا له, ولكن ما استوقفني أنه يمت بصلة قربي الي الرئيس الحالي الدكتور محمد مرسي, إذ تربطهما علاقة مصاهرة, ومن الأفضل بعد ثورة شعبية كبري ألا تتكرر أوضاع تفتح أبواب الفساد مرة أخري, وفوجئنا بتوالي الأحداث بسرعة من خلال نفس المنطق, وهو الهيمنة علي الصحافة من خلال مجلس الشوري, وفرض أوضاع معينة, بعضها مهين انسانيا ومهنيا من خلال المعايير الغامضة التي وضعتها لجنة لا يعرف أحد طريقة تكوينها. كان من المثير تلك التصريحات التي أطلقها رئيس المجلس بتغيير أكثر من أربعين رئيسا للتحرير دفعة واحدة قبل أن يتسلم موقعه, ومنذ مجيئه بدا الأمر كأنه مكلف بمهمة محددة, وهي إجراء تلك التغييرات التي ستؤدي الي اختيار رؤساء تحرير للجماعة, لن أخوض في الشروط والمعايير فقد كتب فيها الكثير, واستخدمت فيها مغالطات, منها كثرة حديث شخص اسمه فتحي شهاب في مجلس الشوري, لا يعرفه أحد في الوسط الصحفي, ويقدم نفسه في الفضائيات باعتباره مهندسا, وتحدث مرة عن عمله في الصحافة كمحرر في مجلة نقابة المهندسين, ومع كل الاحترام لأي مهنة شريفة, بما في ذلك الصيدلة والهندسة, لكن السؤال هنا عن مدي فهم القائمين علي مجلس الشوري الآن لظروف مهنة الصحافة ودقائقها, يتحدث هذا السيد كثيرا عن فساد بعض المؤسسات, وعن أرقام الهدايا المبالغ فيها, ويتعمد الا يشير الي ارتباط ذلك بمراحل سابقة قبل الثورة, حتي في ظل هذه الأوضاع كان الصحفيون هم أول من فضحوا ذلك, وتقدم بعضهم ببلاغات الي النائب العام, هذا وضع قديم لا ينطبق علي المسئولين الحاليين عن المؤسسات, وانني أعرف بعضهم قد تنازل طوعا وبقرار منه عن امتيازات تقرها له اللوائح والقوانين المعمول بها الآن, فلماذا يتعمد المهندس شهاب الخلط وعدم التوضيح, المطلوب, هو ارهاب القيادات الحالية مرة بالكذب ومرة بإشهار سيف التغيير, وهذا في مجمله مناخ غير طبيعي, لكنه يعكس رغبة الجماعة في إحكام السيطرة علي الصحافة القومية, تمهيدا لتغيير أوضاعها, ثم الزحف علي مكونات الدولة المصرية, مثل الجيش والمخابرات والداخلية والخارجية. إن وصول جماعة الاخوان الي السلطة في مصر لا يشبه وصول الحزب الديمقراطي بدلا من الجمهوري علي سبيل المثال في الولاياتالمتحدة, لقد بدأوا تأسيس الدولة الدينية, مشروعهم القديم الذي عملوا من أجله ثمانية عقود, جاءوا بالديمقراطية المريبة, فثمة ملاحظات عديدة علي تزوير الارادات خارج الصندوق, ومنع مواطنين مصريين من الادلاء بأصواتهم وتزوير بطاقات, اعترف بذلك رئيس المحكمة الدستورية في بيان اعلانه النتيجة, والغريب أنه برغم ذكره وقائع المنع والتزوير, قال إن ذلك لا يؤثر علي العملية الانتخابية, علامات الاستفهام كثيرة, لكن ما يعنينا هذه العجلة الشديدة في تغيير الأوضاع بالمؤسسات القومية, ولكن يمكن فهمها في اطار أن الجماعة التي صعدت الي السلطة في مصر باسم الديمقراطية, لن تترك هذه السلطة بالديمقراطية, انها الفرصة التاريخية السانحة لتأسيس الدولة الدينية حتي لو أدي الأمر الي تقسيم مصر, التي تمر لأول مرة في تاريخها الحديث بخطر حقيقي, وقد كنت أتطلع الي الجيش المصري باعتباره حارسا للدولة الحديثة ووحدتها, لكن ثمة أمورا غامضة جرت تجعل احساسا عاما بالخطر علي الجيش نفسه يترسخ الآن, ولعل السبب هو عدم استيعاب قادته الحاليين الخطر الذي تتعرض له الدولة القائمة والمهددة بدولة قادمة من الأزمنة الغابرة, ما يجري في مصر الآن تفكيك لدولة قائمة وإحلال أخري مكانها, وقد بدأوا بالصحافة, من هنا أهمية وخطورة هذه المعركة, فلنتحدث عن مجرياتها ومآلها. يبدو الحزب الحاكم الجماعة متعجلا إحكام القبضة, وإعادة انتاج أوضاع خاطئة سادت طوال العقود الماضية, كان المنتظر بعد ثورة عظيمة أنجزها الشعب المصري أن تجري مراجعة لاصلاح الأوضاع الفاسدة ومنها ملكية مجلس الشوري للمؤسسات وتعيين المسئولين عنها, إنها ملكية صورية, تثير السخرية, فمنذ متي كانت المجالس النيابية المنتخبة تمتلك مؤسسات عملاقة من رموز الوطن, كيف يمتلك المحدث الذي لا قيمة له مؤسسات عريقة كبري لمجرد تبرير السيطرة, طبقا لأحداث التاريخ فإن الثورات العظيمة تليها تغييرات جذرية في اتجاه التقدم, يحدث ذلك من خلال القيادات التي تنبع من صميم تلك الثورات, وليس من خلال جماعة منظمة, لها رؤية قديمة, ضد حركة التاريخ, لم تجد في الثورة إلا فرصة سانحة, وساندها الي جانب التنظيم المتقن, والنشاط المكثف في الميدان التيار السلفي, لم تكن الجماعة من قوي الثورة علي الاطلاق, إنما كانت الظروف كلها تمضي في اتجاه تكريس المشروع القديم, المستمر, بعض أعضاء الشوري يقولون بنص القانون علي ملكية المجلس للمؤسسات, هذا القانون وضع ليبرر وضعا خاطئا, وليس من المعقول استمرار تلك الأوضاع بعد ثورة كبري قامت لتسقط نظاما مختلا, وتصحح الأوضاع الخاطئة, إن وضع مجلس الشوري نفسه استمرار لخطأ يجب تصحيحه, فلا وظيفة حقيقية له, والشئ الوحيد الملموس الذي يقوم به هو ملكية هذه المؤسسات وتعيين رؤساء التحرير وفقا لمنظور الحزب الحاكم, هذا ما يجب أن ينتهي فورا, وفي تصوري أن مقاومة الصحفيين التي بدأت ظهر الثلاثاء الماضي نقطة تحول ليس في ملكية الصحافة فقط, ولكن في مواجهة المشروع المدمر للدولة المصرية, وتغيير هويتها, وحفاظا علي المهنية, والكرامة المهنية والإنسانية للصحفيين, أقترح ما يلي: تصعيد الوقفات الاحتجاجية في الأماكن ذات الصلة, بدءا من النقابة وحتي رئاسة الجمهورية. بدء الاعتصام المنظم, والإضراب الذي يؤدي الي احتجاب الصحف عن الظهور, وأتمني مشاركة جميع الصحف, قومية وخاصة, الأمر في جوهره دفاع عن حرية الفكر, ثم إثارة الموضوع علي جميع المستويات المحلية والعربية والعالمية. سحب الثقة من النقيب الحالي, وأي عضو قام بالمساهمة في وضع هذه المعايير المهينة. أتمني من بعض الزملاء الذين تقدموا الي المجلس طلبا لشغل المواقع القيادية أن يعيدوا النظر في خطوتهم تلك, وألا يستجيبوا الي الشروط المهينة والتي لن تكون بداية موفقة لأي صحفي يبدأ حياته المهنية وليس القيادية, تعلمنا التجربة أن مواقع رئيس التحرير أشبه بعمليات الانتخاب الطبيعي للكائنات, ولا تتم عبر تقديم الملفات الي من وضعتهم المصادفة في طريق المهنة. وضع مادة في الدستور تنظم أوضاع الصحافة عامة, وتكون أساسا لتشكيل المجلس القومي للصحافة الذ يتولي شئون المهنة كافة. لقد شاء قدر الصحفيين أن تكون الخطوة الأولي لأخونة الدولة في اتجاه الصحافة, ولذلك سوف تتوقف أمور عديدة علي نتائجها, لا أبالغ اذا قلت إنها الخطوة الأولي للدفاع عن الدولة المصرية التي تترنح منذ الاستيلاء علي الثورة, أعني الدولة العريقة القديمة, الحديثة التي استمرت بحياة المصريين حتي الآن, والتي تتعرض لأول مرة في تاريخها الي خطر الإحلال والتبديل, بما يفوق كل أنواع الغزو الأجنبي المدمر الذي عرفته مصر وقاومته, هذا جوهر ما يجري الآن, ليست معركة صحافة, انها معركة حول هوية الدولة المصرية. المزيد من مقالات جمال الغيطانى