بوجه شاحب أنهكه التعب والبأس ويد خشنة أصابتها تشققات الزمن وحرارة الفرن الحارقة وعمر في ريعان الشباب شاب قبل أوان المشيب وغطاء قماشي خفيف تحول إلي اللون الأحمر القاني من رماد الطوب المحترق يحمي به رأسه التي تغزوها "الغرز" من أثر الإصابات العديدة السابقة، ويحمل علي ظهره آلة خشبية طويلة تزن خمسة كيلو تقريبا وهي فارغة، تعرف بإسم "العصفور" ويصعد بها محملة بأكثر من 30 كيلو ل"تعتيق" نحو 7 آلاف طوبة يوميا عبر ظهر المقطورات وعربات النقل "التريلات"، بيومية متواضعة للغاية لا تتماشي مع مشقة العمل الذي يقوم به ولا تتجاوز السبعون جنيها . هكذا يقضي العامل فؤاد الأشقر ونحو 20 أخرين من أقرانه العاملين في أفران حرق الطوب"الحمرة"، داخل أحد مصانع الطوب الطفلي بمحافظة الغربية دون أدني رعاية صحية أو اهتمام، وبلا تأمينات اجتماعية علي العمال البالغ عددهم 50 عاملا، بإستثناء ثلاث أو أربع عمال من المقربين من صاحب المصنع والبقية الباقية كالأجير الذي يرمي إليه بالفتات مع نهاية كل وردية، برغم عمله الشاق في مهنة أقرب إلي الموت بطوبة . عامل "العصفور" و"الحريق".. يحترقون بنيران صديقة عمال "المصانع".. هم مصريون بُسطاء يحفرون في الصخر وينحتون في قلب الحجر ويتحملون لهيب الشمس كل يوم ونار الفرن وصعوبات الحياة اليومية وقسوة المهنة التي قلما يسلط أحد عليهم الضوء، ليخفف عنهم ولو قدرا يسيرا من معاناتهم اليومية، بدأنا جولتنا الميدانية وعمال مصانع الطوب في مدينتي زفتي وسمنود بمحافظة الغربية، التي تعد من أكبر محافظات الجمهورية انتاجا للطوب الطفلي، وهي من الصناعات الملوثة للبيئة ومن المناطق التي تزداد بها نسبة الثلوث، فضلا عن صعوبة الحياة فيها، وبالرغم من تلك الحياة القاسية على عمال مصانع الطوب المقيمين هناك ليل نهار يتعرضون للأتربة والتلوث بصورة كبيرة إلا أنهم لا مورد رزق لهم سوى العمل بتلك المصانع . حقوق مهدرة أسوأ ما في الأمر أن غالبية العمال لا يمتلكون أية حقوق لدي صاحب المصنع وهم أشبه ما يكونون بملك يمين صاحب المصنع، يحركهم كيفما شاء ويستغلهم في أي وقت دون تأمينات اجتماعية أو صحية ويومياتهم متدنية للغاية علي عكس ما يقومون به في يومهم . "يا ويله ويا سواد ليله لو فكر عامل واحد في حقه".. هذا ما ذكره رضا عبد الحكيم، أحد العاملين الذي أورد أنه منذ أيام وقع حادث لأحد العمال الذين وقعوا من فوق الفرن, فخاف صاحب المصنع أن يدخل في سين وجيم ورفض أن يحضر الإسعاف لنجدة العامل وتركه ينزف حتى مات, فضلا عن الإصابات العديدة في الرأس التي يتعرض لها معظم العاملين في "الحمرة" بشكل خاص، ويقضون بسببها الأيام والأسابيع في بيوتهم دون سؤال أو تعويض مادي لإسعافهم وعلاجهم . عمالة المصانع ليست حكرًا على الكبار وحدهم، فهناك قطاع عريض من العاملين أطفالًا صغارًا تتراوح أعمارهم بين (8-15) عام، تركوا مدارسهم والتحقوا بكتيبة العمل داخل المصانع، بعضهم يعمل في رش الرمال على طوب الطفلي الأخضر لكي لا يلتصق في بعضه أثناء نقله في الطريق إلى الفرن، وأخرون يعملون بالقرب من "القطاعة" أو "السكينة" لحمل بقايا الطوب المتناثرة وإعادة إنتاجها من جديد. أمراض الصدر والعيون والتلوث.. ضريبة العمل بالمصانع معظم العمال بالمصنع يشتكون من الأمراض الصدرية والعظام والعيون، نتيجة كمية التلوث التي يتعرضون لها والروائح والغازات التي يتنفسونها بشكل يومي،ويكفي منظر العمال أنفسهم من كثرة التراب الذي يكسو ملامحهم بلون الطين تارة وشكل "الحمرة" تارة أخري . داخل مصنع تامر عبدالمنعم العشري، نجل شقيق جبر العشري، عضو مجلس الشعب السابق عن الحزب الوطني المنحل، بسمنود حاولنا الاقتراب أكثر من مشاكل العمال ممن يُطلق عليهم "عمال الفاعل"، الذين أكدوا ل"البديل" أن حقوقهم ضائعة وتأميناتهم الاجتماعية لم يلتفت إليه أحد، وصاحب المصنع يمص دم العامل على مدار السنوات الطويلة وفي النهاية يلقي إليه بالفتات وهو ما وصفه أشرف الصعيدي، عامل بالمصنع، قائلا "آخرة خدمة الغُز علقة"، ففي حالة تعرض العامل لإصابة اثناء عمله، فإن صاحب المصنع يتخلى عنه ويبحث عن غيره، وذكر طارق يوسف بركات، أحد المشرفين على العمال أنه ربما يذهب بالعامل المصاب إلي المستشفي، لكنه لا يري وجهه بعد ذلك. "الحكومة رمت طوبتنا وأصحاب المصانع مصوا دمنا والسيسي أمامه تركة ثقيلة".. بعبارات بسيطة لخص أحدهم ويدعي محمد شداد، من وجهة نظره الوضع العام لعمال المصانع الذي لا يسر عدو ولا حبيب، نتيجة اليوميات الهزيلة التي لا تكفي قوت يوم العامل وحده، فضلا عن أفراد اسرته التسعة وظروف المعيشة المريرة التي يتجرعها يوما بعد الاخر، ورغم كل هذا فليس له حقوق عند صاحب المصنع، فلا تأمينات على العمال ولا تثبيتات لهم بالمصنع وهو ما يصفه صديقه محمد سعد رمضان، عامل بالفرن، مقاطعًا: "الحمير لا تتحمل ما نقوم به". عامل بترت ساقه خلال العمل ولم يسأل فيه أحد وعلي بعد خطوات كانت أكوام الطوب الأخضر متناثرة علي جانبيه وهو يقوم بتسليك بقايا الطوب فوق سير "الطحانة"، ومن هناك وجه مجدي الراعي، نداءا إلى كل صاحب مصنع يطالبه بأن يتق الله فيهم حتى يتقوا الله في أعمالهم لأنهم يعملون في مهنة موت لا تقبل التردد او التراجع، يذكر ان الراعي قُطعت قدمه خلال عمله علي الطحانة منذ شهرين ولم يسأل فيه صاحب المصنع بمكالمة هاتفية لأنه غير مُثبت أو مؤمن عليه وبالتالي فلا دية له أو حقوق تذكر ليطالب بها رئيسه في العمل . فيما ذكر عاطف شراره، أنهم "مش لاقيين اللضا وظروفهم طين" وعلى الرغم من حصوله على رخصة درجة أولى إلا أنه آثر العمل علي العصفور (الآلة الخشبية التي يحمل عليها الطوب المحترق) نظرا لتوقف حال البلد وكثرة البلطجية على الطرق وكما يقول المثل الشعبي "ايه اللي رماك ع المر قال الامر منه" ويتمنى شراره الذي تخطي الثلاثين بعامين أمنية واحدة "أن يتزوج ويجد وظيفة محترمة يأكل منها بالحلال". علي كرسي خشبي قديم كان يجلس كاتب المصنع محمد ابو السعود، وأمامه دفتر ورقي كبير وفي يديه قلم يدون به الصادر والوارد واشياءا أخري لم نميزها، وهو موظف درجة اولى بالشؤون الاجتماعية، منذ 35 عاما وأب لسبعة أبناء لم يكن أمامه بد من الجمع بين المصنع والوظيفه، ليكفي احتياجاته وأسرته ونفقاتهم وتعليمهم وزواجهم، فمعاش الضمان الإجتماعي لا يتجاوز ال 260 جنيها وحافز 430 جنيه وهو ما لم يكف متطلباته الشخصية، الأمر الذي يصفه أبو السعود بأن "شقاها في حلاوتها". وصاحب المصنع.. ثلاثة أرباع العمال مؤمن عليهم ويتقاضون مرتباتهم أفضل من وظائف الحكومة حملنا تلك المطالب العمالية المشروعة إلي تامر العشري، صاحب المصنع الذي اكد من جانبه أن هناك ثلاثة أرباع العمال مؤمن عليهم بإجمالي نحو 100 عامل يتقاضون مرتباتهم كاملة وكأنهم يعملون في الحكومة وأكثر، مؤكدا أن كافة العمال مبسوطين وأحيانا ما يتبغددون عليهم، أصحاب المصانع نتيجة التهاون الشديد والمعاملة المثالية من قبل رؤوسائهم، فضلا عن أقل عامل فيهم يتقاضي ال600 جنيها اسبوعيا في أقل من 6 ساعات عمل يومية. وأضاف العشري ساخرا : "والله ما أنا عارف العامل عاوز ايه؟ رغم أن العمالة زادت بكثافة بعد الثورة لأربعة أضعاف قبلها إلا أن الإنتاج ما يزال في حالة اضطراب وتراجع شديد حتى الآن، وبشأن إصابات العمال يقول "العشري" أنه ليس ملزما بعلاجه، إنما يفعل ذلك لوجه الله وهذا ما لا يحدث في كافة مصانع الطوب الطفلي، قائلا: العامل النهاردة أفضل من الموظف الحكومي بسبعين مرة، فمثلا العربجي يأخذ 250 جنيها اسبوعيا ومع ذلك يرفضها الكثيرون. ويذكر العشري أن المصنع غالبا ما ينتج نحو 80 ألف طوبة خضراء يوميا، 60 ألف طوبة حمراء وهو ما يجعل الأجور متفاوتة بصورة كبيرة تماما كالبورصة، فالتعامل يكون بالإنتاج، فمثلا الألف طوبة تعتيق (تحميل ونقل من الفرن إلي المقطورة) ب19 جنيها وكذلك الألف طوبة خضراء ونقلها من المناشر(مكان وضع الطوب الاخضر) للفرن بنحو 15 جنيها للألف، كما يتقاضي عمال القطاعة (التي تقوم بتقطيع الطوب إلي قوالب) 14 جنيها في الألف الواحد . وتكمن المشكلة الكبري في عمال الفاعل أنهم متغيرون وغير ثابتين، حيث يجري العامل وراء الجنيه الإضافي بحسب تعبيره، فإذا أتي يوما فإنه يتغيب أسبوعا كاملا، مشيرا إلي أنه تم تثبيت نحو عشرين رئيسا للعمال بالمصنع مؤخرا ونحو خمسة عمال أخرون مستديمون معنا وجاري تثبيت من يثبت استمراره في المصنع بصفة جدية خلال الآونة القادمة. توعية حقوقية للنهوض بالعمال يذكر أن محافظة الغربية وحدها تتفوق في زيادة عدد مصانعها بنحو500 مصنع وكافة العمال يعانون نفس الظروف الصحية والحياتية المتردية، ويضيف جمال عبدالعظيم، رئيس الأنفار أن هؤلاء العمال أمانة في رقاب كل مصري, هذا النداء يرفعه الغرباوي للحقوقيين و المهتمين بشئون العمال في مصر، قائلا: العمال محتاجين توعية حقوقية, لأنهم صدقوا فكرة انهم ملك صاحب العمل يفعل بهم ما يشاء وهو ما يجعلهم يستغلون أسوأ استغلال من قبل أصحاب المصانع الذين يقاومون أي محاولات لتحسين اوضاع العمال حتي لايخرجون عن طوعهم، مطالبا تلك الجمعيات بتنظيم قوافل طبية وفصول محو أمية للعمال وذويهم, لمساعدتهم بشتي السبل، لتلك الفئة الكادحة المهمشة من شعب مصر.