يقينٌ بعدالة القضية يحرك مياهًا راكدة، ويعيد للجدل والنقاشات جدواها؛ليتسلل شعور للجميع – الأشياع والخصوم – أن الأمور لم تُحسَم بعد، رغم كل المعطيات التي تؤكد حسمها، وتؤكد عمق الهزيمة.. يتسلل الأمل إلى الأشياع الذين ترهقهم رتابة تبعات الهزيمة، ثم يطيش الأمل، ويتمدد؛ ليملأ الفضاء الافتراضي؛ لتتحول الرغبات البسيطة التي كانت في الأصل محرك الأمل إلى مطالب خلاصية أوسع وأشمل، ربما أكبر من قدرة طاقة الأمل تلك على إضاءة مساراتها، ثم تتغير الأمور ببطء، غير أن البطء لا يناسب أجواء المنولوجات الخلاصية، التي دائمًا ما تتقدم المشهد؛ لتشيع من جديد روح الإحباط واليأس وخشية الانسحاق، ثم تعاود الدورة كل مرة كرّتها من جديد! أتذكر حديثي مع أحد الأصدقاء قبل أيام من اندلاع ثورة يناير. حينها كان كلٌّ منا قد قرر المشاركة، غير أن أيًّا منا لم يكن يتوقع شيئًا معجزًا من وراء تلك المشاركة، و كان هاجس صديقي هذا الذي يقارب اليقين أنه سيقف وحيدًا على سلم دار الحكمة في مواجهة حشود الأمن، ولا يدري ما قد تسفر عنه مواجهة كهذي من أذى سيطوله حتمًا. كان مدركًا لعمق الأزمة ولحتمية التحرك، ولكن مشاركته كانت من قبيل إبراء الذمة أكثر من أن تكون من قبيل الأمل. أتصور أحيانًا لو مضى ذلك الثلاثاء – البعيد الآن – وقتها كما ظن صديقي ماذا سيكون رد فعله، وماذا كان قائلًا، غير أني لست بحاجة إلى أن أتخيل؛ فما يحدث الآن كرد فعل من معسكر الثورة على فشل المحتجين في تأمين شبر من الأرض ليبدءوا منه مسيرتهم في جمعة الأرض هو ما كان سيقوله صديقي هذا لو فشل المحتجون في ثلاثاء يناير المجيد البعيد هذا! صديقي هذا ليس بدعًا من معسكر الثورة؛ فكثيرون ممن أعرف هم هذا الصديق.. هم هؤلاء الذين بدءوا الصراخ على ضياع الثورة، وشرعوا في التباكي حين كانت الثورة في كامل عنفوانها، وحين كانت تحكم الشارع، وتُملي علي الغربان الشروط.. أتذكر حال العديدين منهم في أعقاب استفتاء مارس، وكيف تسلل الذعر إلى قلوبهم، وكأن العالم قد انهار، وأن الثورة قد انسحقت.. أتذكر حال هؤلاء في كل المحطات التالية التي ظلت فيها جذوة الثورة تشتعل، وتباغت، وتنقضُّ، ثم تهدأ؛ لتعاود التمرد من جديد. لقد عايشنا الحوادث الجلل، غير أن استغراقنا في التفاصبل يحجب عنا رؤية ما صنع جيلنا هذا في نصف عقد. إن مصر الآن لا تشبه مصر التي كانت صبيحة 24 يناير 2011، حتى إن أراد البعض رؤيتها هكذا، بل إن مصر الآن لا تشبه مصر التي كانت منذ عام! في أوقات الجزر وفي أعقاب المحاولات الفاشلة، عادة ما يظهر هؤلاء الذين ينضحون الحكمة بأثر رجعي، ويُبكِّتون المقاومين على أشياء، كتوقيت التحرك وجدوى المحاولة وجاذبية القضية، غير أنهم لا يدركون أن الناس لا يولدون في أوضاع من تقديرهم، كما لا يثورون على ظروف من اختيارهم، غير أن بوسعهم الاختيار في أن يغيّروها، وإن كانت الظروف قد تبدو غير مواتية، فالتمرد قد يدنيهم خطوة أخرى من ضربة أخرى، قد تغير الموازين، وتعيد الأمل! النقد والمراجعة حتمي إن أردنا تغيرًا نوعيًّا جادًّا في مسار الثورة. ولكن لن يتأتي هذا إلا بمراجعة التجربة برمتها وتفاصيلها ومحطاتها وخطابها وتكتيكات حركتها المختلفة. وهو أمر يصر الجميع على القفز عليه، ولن يتأتَّى هذا بانتزاع محاولة من سياقها؛ في محاولة لكسر من بادروا، أو للحط مما قاموا به، بل بمراجعة كامل التجربة، بدءًا من خلاصية الخطاب الثوري، والذي دوما ما يعبئ معسكره قبل كل محاولة؛ باعتبار تلك المحاولة فصل الرواية الأخير، وهي الخلاصية التي يتم الترويج لها بوعي؛ أملًا في الخلاص من تبعات الانتصار إن تحقق، وهو شيء يبدو كثيرًا كعلاقة شاب بفتاة يحبها، ولكنه يخشى تبعات الارتباط، فيحاول جاهدًا إقناع نفسه بحتمية فشل العلاقة، غير أنه يبقى مترددًا؛ آملًا في أن ينوب عنه القدر في حسم الخيار. هكذا هي علاقة كثير من الثوريين بالثورة.. يترددون على الميادين في لحظات الحنين، ويخشون تبعات الانخراط في التقييم والتنظيم و المراجعة! قد أخالف الكثيرين هنا في أمر جمعة الأرض؛ ففي رأيي أن ما تم استخدامه من خطاب وتكتيكات التواصل اللحظي وتجنب الخسائر الفادحة كان مناسبًا. والمشكلة ليست في الخطاب كما يدّعي البعض؛ فقد كانت القضية عادلة ولها أسانيد، لم يتمكن النظام رغم سيطرته على الأبواق الإعلامية من ضحدها، وجل ما كان يصبو إليه النظام في جدل كهذا هو إغلاق ذلك الملف. وظني أن تلك المعركة قد أسقطت ورقة التوت الأخيرة التي كان يواري بها النظام سوءته، ووضع خطابه الوصيَّ على الوطنية المصرية في مكانه الصحيح، وهو سلة المهملات، ودفع خصيانه في طور جنونهم الأخير إلى إعلان موقفهم صريحًا حينما احتفلوا بعيد تحرير سيناء، محتمين بالمدرعات، رافعين علم المستعمر الجديد؛ "ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بيّنة"، واستدعت القضية ذعرًا غير مسبوق في أروقة النظام، والتي على انفلاتها، أدركت أن الأمر قد يخرج عن السيطرة، وقد يقود كثيرين إلى المشانق, وهو الأمر الذي استدعى سعارًا أمنيًّا غير مسبوق، طال المواطنين في مقاهيهم وفي أماكن سكنهم وعملهم بعشوائية، تنم عن الذعر أكثر مما تنم عن السيطرة. كما استدعى الأمر أن يتحول قلب العاصمة لثكنة عسكرية لقرابة الأسبوع. وكما كشفت القضية سوءة خطاب الوطنية الزائف، كشفت عريه من المناصرين. فرغم محاولات حشده للخصيان والمؤيدين في حماية الأمن وبرعايته، كان الحشد أضعف من أن يواري مؤخرة النظام العارية! لقد حققت يناير انتصارات ملحمية، واختزلت الزمن كثيرًا على غير العادة، غير أن الحياة لا تعرف فصول النهاية، حيث ينتصر الطيبون، ويرثون الأرض. فالثورة كالحياة منعطفات تحمل النصر والهزيمة ولحظات الإلهام والأمل والانكسار ولحظات أكثر من الانتظار. وكما تزداد خبرتنا وتجربتنا، ونقطع خطوات كل يوم، كذا يصنع خصومنا!