(1) وصف الجبرتي أول ثورة شعبية حقيقية في تاريخ القاهرة بأنها "فتنة"..!، لكن الوقائع التي وصلتنا أثبتت أنها كانت ثورة عارمة فعلت مالم تفعله جيوش المماليك التي تجاوزت 60 ألف مقاتل، ولم تستطع أن تصمد أمام نابليون أكثر من 3 ساعات، حيث هرب مراد بك وإبراهيم بك إلى الصعيد، بعد أن حملوا الغالي والنفيس، ولما هدأت الأحوال بدأوا يغازلون المستعمر لتقديم خدماتهم.!. وفي هذا المقال أقدم سرداً تفصيليا لأحداث الثورة، بعيدا عن المغالطات التي امتلأت بها كتب التاريخ المرائي، ومطبوعات الأزهر الديماجوجية التي وصلت في عدم الدقة إلى خلط المعلومات والأسماء بين ثورة القاهرة الأولى التي أشعلها رجال "حارة الحسينية" واتخذت من الأزهر مركزا لها، وبين ثورة القاهرة الثانية التي انطلقت من بولاق، وفي الثورتين كان كبار الشيوخ من أعضاء الديوان يأتمرون بأمر الجنرال، وينفذون تعليمات ساري عسكر لتهدئة العوام الثائرين ونزع فتيل الثورة!. (2) في اليوم الأول لثورة الحسينية، سيطر الثوار على منطقة الأزهر، وقتلوا الحاكم الفرنسي ديبوي، ولما علم نابليون بالخبر، شعر بالفزع، فقد كان "ديبوى" من أبرز قواده، وأرسل إلى مشايخ الديوان، فلم يحضروا، فأمر بإعداد قوة عسكرية من الفرسان والمشاة وقصد الأزهر بنفسه، حيث فوجئ بالحشود التي وصل عددها عند العصر إلى 15 ألف ثائر، وقفوا يهللون ويكبرون، ويلعنون نابليون والفرنسيين، ولم يستطع نابليون أن يتقدم، فعاد إلى معسكره وأمر بإطلاق النفير العام معلناً حالة الحرب، ونصب المدافع داخل أسوار القلعة وفوق هضبة المقطم، وأمر بالقصف فانهمرت القنابل علي الجامع الأزهر والأحياء المجاورة، ودوت الانفجارات بهول لم يعهده سكان القاهرة من قبل، وحسب تعبير الجبرتي "أوشك الجامع أن يتداعى من شدة الضرب، وأصبح الحي صورة من الخراب والدمار، لم يعد فيه سوى بيوت محترقة، ودور مدمرة وآلاف من الجثث تحت الأنقاض"، وفي صباح اليوم التالي، انتشرت كتائب الفرنسيين، في المناطق التي تجمع فيها الناس حول الأزهر، واتجهت كتائب أخرى لمنع جموع الأهالي التي تقاطرت من الضواحي على القاهرة، وكان منها كتيبة يقودها ياور نابليون الكولونيل سلكوسكي، الذي قتله الثوار، وهم في طريقهم للزحف نحو المدافع الرابضة فوق تلال البرقية والقلعة، ولما علم نابليون بمقتل سلكوسكي، جن جنونه، وأعطى أوامر مباشرة بالتنكيل بالثورة وقمعها بأي ثمن، وقُتل الآلاف من سكان القاهرة في ذلك اليوم. مقطع من لوحة الفنان الفرنسي بيير جورين