يعد تفسير المنار ذروة جهود الإصلاح الديني في العصر الحديث، فقد مثل نقلة نوعية كبرى في التعامل مع نصوص القرآن، بروح جديدة، تتجاوز قيود الأسلاف، وثقل المرويات والآثار، لا سيما في أجزائه الخمسة الأولى، التي ألقاها الشيخ محمد عبده، ودونها تلميذه رشيد رضا. بدأ محمد عبده دروس التفسير، في بيروت، ولمدة عامين، ثم واصلها في في الجامع الأزهر خلال السنوات الست الأخيرة من حياته، ووصل إلى الآية 125 من سورة النساء.. أما الأجزاء التي تلت هذا الموضوع وصولا إلى سورة يوسف، فهي كلها للشيخ رشيد، الذي استعاد الروح الأثرية، واستعان بالمرويات خلافا لطريقة الأستاذ الإمام. مثلت دروس محمد عبده في التفسير مرحلة النضج والاستقرار للجهود التي بدأها جمال الدين الأفغاني، ويرى محمد الفاضل ابن عاشور أن عبده "كان ينظر إلى حقائق الدين الإسلامي على نحو يختلف اختلافا واضحا عما كان ينظر به إليها أكثر معاصريه، وكانت أصول نظرته تلك غير بارزة المعالم للناس.. فكان اتصال الشيخ رشيد به فرصة لاتضاح تلك المبادئ والأصول عبر الدور العظيم الذي قامت به مجلة المنار". وبالرغم من أن الروح المتجددة في تفسير المنار تنسب إلى ما بثه الأفغاني من أفكار، وإلى ما قدمه محمد عبده طرائق الفهم، إلا أن ابن عاشور يرى أن رشيد رضا هو الأولى بنسبة التفسير إليه، لاسيما إذا أخذنا عدد الأجزاء المفسرة في الاعتبار، ودور رضا في إقناع الإمام بإلقاء درس منتظم في التفسير، لكن النظر بمعيار التجديد والإصلاح، يجعل الأهمية الكبرى للأجزاء التي فسرها محمد عبده، وإلى جرأته غير المسبوقة في التعامل مع الآيات القرآنية، واعتماد الفهم الذي يطمئن إليه، حتى لو كان غير مسبوق في تفاسير الأقدمين. لقد انعكس التكوين الأصلي لرشيد رضا على تفسيره، فقد نشأ الرجل نقليا أثريا، ثم تأثر بأفكار الأفغاني ومحمد عبده، حتى إنه كتب في مقدمة المنار "إن أكثر ما روي في التفسير بالمأثور حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية".. وقد سار في تفسيره على هذا المنهاج، ثم عاودته الروح النقلية الأثرية، فتتبع الأقدمين، وأكثر من النقل عن الطبري وابن كثير. عرف رشيد رضا محمد عبده أثناء إقامته في بيروت، لكنه لم يتتلمذ له، ولم يأخذ عنه، ثم عاد الأستاذ الإمام إلى مصر، وبقي رضا في بيروت لإكمال دراسته، ثم التقى بعبده عندما زار لبنان مصطافا، فزاد نعلقه به وإكباره له.. فلما توفي جمال الدين الأفغاني عام 1896، قرر رضا الرحيل إلى مصر، ليتلقى حكمة الأفغاني من أكبر وارث لها، وهو محمد عبده، ووصل رشيد إلى مصر في يناير عام 1898، وقد سيطرت على نفسه فكرة إصدار مجلة إسلامية، تنشر دعوة الأفغاني، وتعاليم محمد عبده، الذي اختار بنفسه اسم "المنار". كان محمد عبده يرى أن الكلام المسموع له وقع أكبر على النفوس من الكلام المكتوب، فلم يكن متحمسا لتدوين تفسيره، لكن رشيد رضا قال له: "إن الزمان لا يخلو ممنْ يقدِّر كلام الإصلاح قدره، وإن كانوا قليلين، وسيزيد عددهم يوما فيوما، فالكتابة تكون مرشدا لهم في سيرهم، وإنَّ الكلام الحق، وإنْ قل الآخذ به، والعارف بشأنه لا بد أن يُحفظ، وينمو بمصادفة المباءة المناسبة له". بدأ الشيخ رشيد ينشر ما دونه من تفسر الأستاذ الإمام ابتداءً من أول محرم سنة (1318ه / 1900م)، وذلك في المجلد الثالث من مجلة "المنار". ولم يكتف في أثناء حياة شيخه بالنقل عنه، بل كان يضيف إلى التفسير زيادات كثيرة، وكان يميز في معظم الأحيان، بين أقواله وأقوال محمد عبده، بقوله: "وأقول"، "وأنا أقول"، "وأزيد الآن". وبالرغم من المسحة الأثرية الواضحة في تفسير رشيد رضا، إلا أنه كان حريصا على أن يربط بين الآيات التي تتكلم عن موضوع واحد، وكذلك اهتم بالحديث عن الموضوع العام الذي تتناوله السورة التي يبدأ في تفسيرها، مما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار رشيد رضا من أوائل من تنبهوا إلى أهمية "التفسير الموضوعي".