أثارت الأزمة الأخيرة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية جدلاً واسعاً حول دور مصر في القضايا العربية والإقليمية، فقوة الدولة وشخصيتها معيارها الأساسي لسياستها الخارجية وقدرتها على التفاعل مع التطورات السريعة بشكل فعال ومرن بحيث لا تتعرض سياستها لنوع من الارتباك أو التبعية في مواقفها السياسية، ومن هنا لا يمكن بشكل من الأشكال استبعاد صورة مصر النمطية عبر تاريخها الطويل كلاعب عربي وإقليمي وإفريقي في المنطقة له شخصيته المستقلة والمؤثرة، فلقب "أم الدنيا" يشهد القاصي والداني بأنه علامة حصرية لجمهورية مصر العربية، ولا يختلف اثنان على أن مصر هي الشقيقة الكبرى للدول العربية، حتى الواقع المعاصر يشهد على أن تراجع مصر انعكس سلباً على الدول العربية بما في ذلك صراعها مع العدو الصهيوني وبالفعل لا يمكن الحديث عن حرب مع إسرائيل لا يكون الجانب المصري حاضراً فيها خاصة في ظل الأزمات الراهنة التي تلاحق الجيوش العربية وتنال من قوتها وصلابتها. غياب مصر عن الوساطة السعودية الإيرانية الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين السعودية وإيران أثارت العديد من الأسئلة والنقاط حول دور مصر وما كان يجب عليها أن تفعله، خاصةً وأن إمكانيات مصر تخولها للعب دور الوسيط بين الرياضوطهران، لكن تراجع مصر عن هذا الدور يفتح المجال أمام كثير من الدول العالمية والإقليمية لأخذ مكانها وامتلاك زمام المبادرة، فصحيح أن هناك خلافات بين مصر وإيران وتاريخا طويلا من القطيعة الدبلوماسية إلا أن هذه الأسباب لا تعد مبرراً كافياً لمنح دور الوساطة لدول أخرى، كتركيا على سبيل المثال لا الحصر، فتركيا نفسها بينها وبين إيران كثير من الخلافات والأزمات الحالية لا تدع مجالاً لأدنى شك في ذلك، فالخلاف التركي الإيراني واضح في سوريا وكذا في اليمن وفي العراق وقبل أيام فقط قامت كل من تركيا والسعودية بالاتفاق على تشكيل مجلس تعاون استراتيجي قالا صراحة أن هدفه تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. إيران نفسها نشرت فيديوهات تتهم فيها تركيا بسرقة النفط السوري عبر داعش، ومع ذلك عرضت أنقرة لعب دور الوساطة، حيث حث رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو 5 يناير2016، كلا البلدين على اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية لحل الخلاف بينهما، وقال: إن القنوات الدبلوماسية يجب أن تعطى فرصة فورا، ونحن مستعدون لتقديم أي مساعدة بناءة للوصول إلى حل. الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي لا تدع فرصة يمكن من خلالها تأجيج الصراع الطائفي في المنطقة إلا واستغلتها وعلى الرغم من تاريخها العدائي مع إيران، مازالت تمد العقوبات الأمريكية على إيران، فضلاً عن استبعاد الخارجية الأمريكية أن تقوم واشنطن بأي وساطة بين البلدين، إلا أن هذا لم يمنعها من إطلاق شعارات شكلية تدعو فيها كلاً من السعودية وإيران للتهدئة، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جون كيري، علمنا أن السعودية أمرت بإغلاق البعثة الدبلوماسية الإيرانية في المملكة، مشيراً إلى أن الإدارة الأمريكية على قناعة بأن الحوار الدبلوماسي والمحادثات المباشرة هي الأدوات الأساسية لحل الخلافات، مضيفاً أن واشنطن ستواصل حض قادة المنطقة على القيام بخطوات إيجابية لتهدئة التوترات. الموقف الروسي من الوساطة بين السعودية وإيران يجب على مصر قراءته بشكل جيد، فمن الواضح أن روسيا تراهن على دور إقليمي لمصر في ملفات المنطقة والتقارب الروسي المصري مؤخراً يأتي في هذا المضمار، فروسيا أعربت عبر خارجيتها عن أسفها لتصاعد التوتر بين السعودية وإيران، مبدية استعداد موسكو للعب دور الوساطة بينهما لتسوية الخلاف، التقارب الروسي المصري يجب أن يقاربه مرونة مصرية إيرانية، لا سيما وأن طهران حليف روسيا في منطقة الشرق الأوسط، وعدم وجود نوع من المرونة السياسية بين مصر وإيران قد يمنع بصورة أو بأخرى محاولات مصر في لعب دور رمانة الميزان الذي تسعى إليه في تعاطيها مع الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا. مصر ملكية أكثر من الملك وزير خارجية السعودية عادل الجبير قال ينبغي على إيران احترام الأعراف الدولية قبل إعادة العلاقات، في إشارة ضمنية بأن الباب في وضعية المواربة ولم يغلق تماماً في وجه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وحتى لو ألقينا نظرة خاطفة على شقيقات السعودية من دول الخليج نجد أنها إلى حد كبير كانت بعيدة عن الموقف السعودي، فباستثناء الموقف البحريني الذي قرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وممكن تبريره بأن البحرين تجامل السعودية في موقف الأخيرة الداعم للحكومة ضد الأزمة الداخلية فيها، حيث أرسلت السعودية درع الخليج لدعم الملك البحريني في التظاهرات التي هددت عرشه ومازالت، ولكن بالعودة للدول الخليجية الأخرى نجد أن موقف الإمارات وبالرغم من أنه يتصف بشيء من الجدية لكنه لم يبلغ حد القطيعة الدبلوماسية حيث خفضت تمثيلها الدبلوماسي في إيران، إلى مستوى قائم بالأعمال، وقللت عدد الدبلوماسيين، على الرغم من وجود خلاف إماراتي إيراني متجذر من عام1971 حول الجزر الثلاثة (طنب الكبرى، والصغرى، أبو موسى)، ومن الوارد جداً أن تستثمر الإمارات الخلاف السعودي الإيراني وتوظفه لخدمة مصالحها. الكويت اكتفت بإدانة اقتحام سفارة المملكة العربية السعودية في طهران، وقنصليتها بمدينة مشهد، معبرةً عن تضامن بلادها الكامل مع الرياض، لم يختلف الحال في قطر عنه بالكويت فأكتفت هي الأخرى بالتنديد والاستنكار والتضامن مع المملكة لكنها لم تقطع العلاقات الدبلوماسية، وبالتعريج على سلطنة عمان نجد أنها اكتفت بحد الأسف على الهجوم الذي تعرضت له سفارة السعودية في مشهد لكنها لم تستدعِ سفيرها أو قطعت علاقاتها مع طهران. كل ما سبق يجعل موقف مصر مثيرا للدهشة، حيث قال وزير الخارجية المصري سامح شكري: اتخذنا قراراً بقطع العلاقات مع إيران منذ 27 عاماً نظراً للأوضاع في ذلك الوقت ونرى في هذا تدخلاً في الشأن الداخلي للمملكة وهو أمر مرفوض ولا تقره أي من القوانين والأعراف الدولية، ما يزيد من هذه الدهشة أن مصر في هذه القضية ليست طرفاً أصيلاً في الخصومة التي قد تحل في أي لحظة بين السعودية وإيران، فإلى حدٍ ما التزمت الشقيقات الخليجية للسعودية ما يشبه الحياد الذكي في الأزمة الدبلوماسية بين الرياضوطهران. مصر وتفويت الفرص الحديث عن تفويت الفرصة هنا لا يعني بالضرورة تقارب مصري إيراني فهو منطقة الفراغ العقلي لأي حديث عن المهاترات الطائفية، ولكنه يعني رجوع مصر كلاعب إقليمي حقيقي في المنطقة، خصوصاً في ظل قطيعة مصر للاعبين إقليميين آخريين في المنطقة كتركيا، حيث نفى وزير الخارجية المصري سامح شكري في زيارته الأخيرة وجود وساطة سعودية بين مصر وتركيا، مشددا أنه لن يلتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو أيا من المسؤولين الأتراك الموجودين في السعودية خلال زيارته الأخيرة، كما أن تقارب مصر السياسي مع روسيا دون إيران يشكل حالة من عدم الاستقرار في السياسة المصرية، خاصة أن روسياوإيران أطراف فاعلة في محاربة الإرهاب الداعشي الذي بدأت مصر تعاني منه في سيناء أو حتى عبر حدودها مع ليبيا والسودان. من المعروف أن السياسة محمولة على المصالح، فالتقارب السعودي المصري لم يمنع الرياض من تقاربها مع تركيا لتحقيق مصالحها، ومصر هنا لا تستطيع دعوة السعودية لقطع علاقتها الدبلوماسية مع تركيا نتيجة خلافها الشديد مع أردوغان والذي اعتبرته مصر بأنه يتدخل في شؤونها الداخلية، دعوة وإن تمت ستقابل بالرفض السعودي، ومن الصعب أن تلعب مصر دورا حقيقيا وفعالا في المنطقة وهي لم تجد بعد قنوات تستطيع أن تتواصل بها مع اللاعبين الإقليميين، كما أن طريقة مصر في تجاهل هذه القوى الإقليمية كتركياوإيرانوقطر، واعتبارها غير موجودة طريقة يجانبها الصواب، فيجب إيجاد آلية للتعامل معهم من دون الإضرار بمصالح مصر وبما يحفظ شخصيتها الاعتبارية في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن مصر تمتلك ميزة قد لا تتوافر في بعض الدولة العربية والتي تؤهلها للعب دور الوساطة هي أنها مازالت تتمتع بالوسطية الدينية، فمصر لا تحسب على الدول التي تتبنى أفكاراً تكفيرية ما يمكنها من أن تكون وسيطاً توافقياً لأي خلاف عربي-عربي أو حتى عربي-إسلامي.