المُتَصَهينون موجودون دائمًا بيننا، من قبل أن تقوم انتفاضة واحدة، ومن قبل حرب النكسة، لا بل من قبل 1948، المتصهينون دائمًا هُنا ونحن دائمًا نراهم، وهُم دائمًا لا يعلمون أنهم واضحون وضوح الشمس في كبَد السماء. المُتصَهينون منبوذون بطبعهم، ينبذون أنفسهم قبل أن ينبذهم الناس، فهُم يفضّلون الانزواء جانبًا قبل أن تسوقهم الفضيحة إلى ذات الجانب ونفس الطرقات المحمّلة بالعار ووصماته التي تلطّخ الجبين ليراها الكفيف قبل المُبصر. المُتَصَهينون يعيشون على الجيف، يأكلون الموتى بعد أن كانوا يهابونهم وهُم أحياء، يخشون نسمة الحياة الخارجة من أنوف وأفواه جنود الحق فيقتلونهم على استحياء بطعنة في الظَهر ليلاً، ويقيمون الأفراح فوق جثثهم نهارًا، هكذا هُم، هكذا كانوا وهكذا ستبقى سيرتهم حينما يدوّنها أبناؤنا كصفحة مطويّة من صفحات التاريخ. في الماضي، كان المتصهين المنزوي يخشى أن يلمح أحدهم بسمته الخبيثة حين يموت جسد مناضل، كان بعضهم يبذل قصارى جهده كي تقطر من عينه دمعة لعلها تختلط بدموعنا وتختفي فيها. في الماضي، كان المتصهين يرقص طربًا في بيته أو ملجأه على صوت الرصاص الذي يقتل أصحاب الأرض والحق والتاريخ. المتصهين لا يحمل جنسيّة، ولا يرتدي القبّعة، المتصهين يرتدي ذات ردائك، لكن الرداء لا يخفي الدماء الملطخة لجسده، يبكي في الخفاء ويضحك في الخفاء، يبكي حين تضحك ويضحك حين تموت، لن ترى ضحكة قلبه الجوف مرّة واحدة. كانوا كذلك حتى وقتٍ قريب، كانوا يمارسون شعائرهم الجوفاء في الخباء حين يسقط جسد شهيد لترتقي روحه الطاهرة، كانوا كذلك إلى أن تشعّبت القضايا بأيديهم وتراكمت الخبائث وسط الحقائق واندس سُم الخيانة في عسل النضال الزائف، كانوا كذلك إلى أن ذابت العيون الزائغة وسط الشعارات البريئة وحينها وجد كُل متصهين جواده الذي يمتطيه ليرتدي أمام الجميع ثوب الفارس، ويسحق أسفل أقدامه الحق الجَليّ رافعًا الباطل فوق عنقه مقدّمًا إياه لنا، معلنًا للجميع سعادته على ما آل إليه الحق والباطل من تبدّل واختلاط. اليوم، لا يجد المتصهين أي حرج في أن تنفرج أساريره حين تُعلن الإذاعة عن استشهاد المناضل «سمير القنطار» في غارة جويّة صهيونيّة على حيّ جرمانا السوري، معللاً سعادته بأن الشهيد كان يناصر نظامًا ظالمًا، يصف المتصهين النظام بالظالم بينما يرقص طربًا على نيران العدو الصريح التي قتلت مناضلاً قضى من عمره أكثر من ربع قرن في أسر الصهيونيّة، يرقص المتصهين فرحًا لموت من حمل السلاح ضد الاحتلال، ولا يتوقف المنساقون خلفه لحظة واحدة أمام المشهد الواضح أمامهم، المشهد البسيط المباشر الذي نرى به مقاتلاً في صفوف المقاومة يقع شهيدًا بنيران الاحتلال، ومازال يردد عبارات الخيبة والعار عن نظام ظالم، أي نضال هذا الذي تدعمه الغارات الصهيونية؟ وأي مناضل ذلك الذي يحتفي ويسعد ويطرب بنيران الاحتلال؟. لم يلتفت أحدهم لإعلان أن سبب الاغتيال كان إقدام القنطار على فتح جبهة للمقاومة في الجولان السوري، لم يلتفت أحدهم إلى عُمر الرجُل الذي ضاع بين رصاص العدو وبين قضبان سجونه، لم ولن يلتفت المُتصهين ومن تبعه يومًا إلى الحقيقة الواضحة، فقد أصبح للخائن قضيّته وأصبح لبائع الوطن نضاله الذي يفتخر به، ولهذا وذاك في الدنيا عار لن يتركه حتى بالموت. لهم فرحهم بالقنطار الذي مات، ولنا أن نزف إلى السماء بطلاً من بلادنا لعلنا نتطهّر بروحه من كُل متصهين أنجبته أراضينا.