نقرأها.. نقرأ أنفسنا معها، تاريخنا الذي لا يعرفه الطغاة، وواقعنا الذي دنسوه، مستشرفين غدنا المجهول، ندخل إلى عالمها لنجدها أعدت لنا خبز الإنسانية وقوت الهوية، لها خبرة الجدات في الحكي قسماتهم، وابتسامات الصبايا، وحنو الأمهات ونضالهم، هي أم الشاعر وامرأته، تميم ومريد البرغوثي، الروائية الفذة «رضوى عاشور» المولودة في القاهرة سنة 1946. لا نقول رحلت في الاثنين الأول من ديسمبر الجاري، بل اكتملت، وأبدًا لن نقول وداعًا، فالخالدون لا يرحلون أبدًا، ستظل «رضوى» في ذاكرتنا الجمعية، يد لأم حنون تربت على هويتنا الممزقة، وميض من النور إذا أغرقنا الظلام، وخطوة في اتجاه الذات إذ نحن نضل الطريق. "فعل ينفي الآخرين وفي نفس الوقت يخاطبهم، وكأنه ينفيهم ليكتب حكاياتهم ويقصيهم ليقترب منهم".. هكذا حدثتنا عن الكتابة في حفل توقعيها الأخير لمؤلفها «أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية»، والذي خاطبت فيه قارئها بحميمة قائلة له: لن تنتبه أنني في السابعة والستين، لا لأن الشيخوخة لا تبدو بعد على ملامحي، ولا لأنك لو طرقت بابي الآن ستفتح لك امرأة صغيرة الحجم نسبيًا ترتدي ملابس بسيطة، شعرها صبياني قصير وإن كان أبيضه يغلب أسوده، يكاد يغيبه، ليس لهذه الأسباب فحسب بل لأن المرأة، وأعني «رضوى»، ما إن تجد الشارع خاليًا نسبيًا، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيلها لأبعد نقطة ممكنة. تفعل كأي صبي بقال في العاشرة من عمره يعوضه ركل الحجر الصغير عن ملل رحلاته التي لا تنتهي لتسليم الطلبات إلى المنازل، وعن رغبته في اللعب غير المتاح لأنه يعمل طول اليوم، تأخذها اللعبة، تستهويها فلا تتوقف إلا حين تنتبه أن أحد المارة يحدق فيها باندهاش». "لماذا الحضور الطاغي للموت في رواياتك؟" سؤال وجهه أحد الحضور في الحفل الذي أشرنا إليه لرضوي، وعلى الفور جاءت إجابتها كاشفة للكثير من المرارة التي تخبئها خلف الابتسامة العذبة التي نعرفها "أنتمي إلى جيل فتح عينيه على هزيمة 67 التي استشهد فيها آلاف الشباب، وفقدت الكثير من أصدقائي في الحروب المختلفة التي خاضتها مصر منذ 67 وحتى 73، كما أنني تزوجت من مناضل فلسطيني، الموت في وطنه الذي هو وطني أيضا وليمة دائمة، ربما لهذه الأسباب كان الموت حاضرًا بشكل كبير في أعمالي، ولكنني مازلت أحب الحياة" جل كتابات «رضوى» تكشف تلك الحقيقة، تكتب لأنها تحب الحياة، فتورطت طوعًا في معارك عنيفة مع الموت، وانتصرت «رضوى» لنا للحي فينا ذاكرة ومستقبلنا. جانب آخر غاية في الأهمية من جوانب المبدعة، ربما لا يلتفت له الكثيرون من عشاقها، وهو إبداعها النقدي، فلم يتوقف إنتاجها النقدي، عند شهادة الماجستير في الأدب المقارن من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والتي عنونتها ب«البحث عن نظرية للأدب»، ولا حين انتقالها إلى أميركا لنيل الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس، عن أطروحتها حول الأدب الإفريقي الأمريكي. «الطريق إلى الخيمة الأخرى» كان أول منشوراتها النقدية، وهو مؤلف حول التجربة الأدبية للمناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني. كما أصدرت «جبران وبليك» بالإنجليزية، ثم ألحقته ب«التابع ينهض» دراسة للتجارب الأدبية بالغرب الإفريقي. وطوال فترة اشتغالها بالتدريس في قسم اللغة الأنجليزية لكلية الآداب بجامعة عين شمس، والذي ترأسته لثلاث سنوات، قدمت إبداعًا نقديًا لا يقل أهمية عن نظريه الأدبي، حتى أنها شاركت في «موسوعة الكاتبة العربية»، وأشرفت على ترجمة الجزء التاسع من موسوعة كامبريدج في النقد الأدبي، انتهاءًا ب«الحداثة الممكنة». حازت «رضوى» على العديد من الجوائز: أفضل كتاب لعام 1994 عن رائعتها «ثلاثية غرناطة»، على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، كما نالت عنها الجائزة الأولى للمعرض الأول لكتاب المرأة العربية، كما نالت جائزة قسطنطين كفافيس للأدب في اليونان. وتركوينيا كارداريللي في النقد الأدبي في إيطاليا. وجائزة بسكارا بروزو عن الترجمة الإيطالية لرواية أطياف. وجائزة سلطان العويس للرواية والقصة. النضال والمقاومة كانا من أهم قسمات شخصية رضوى عاشور، فهي زوجة الشاعر المناضل الفلسطيني مريد البرغوثي، والذي منع الإقامة في مصر تحت حكم السادات، الأمر الذي تكرر من نجلها «تميم» إثر مشاركته في الموجة الاحتجاجية 2003 ضد غزو العراق.. يحدث هذا وأكثر بينما «رضوى» ونضالها يتخطى صفحات الروايات والأعمال النقدية، لتقاوم بتفريخ أجيال واعية بتدريسها في الجامعة، وشاركت في الكثير من اللجان الشعبية الوطنية والقومية، لمواجهة الفساد والطغيان والاحتلال، حيث شاركت في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، واللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية. مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات والتي تشكلت في بداية الحراك الثوري الذي مهد الطريق لثورة 25 يناير المجيدة، والتي سيظل وجه «رضوى» مطلًا ببسمته، كلما تصفحت الأجيال القادمة صفحات هذه الثورة. وعن عمر ناهز ال68 عامًا، أكملت رضوى عاشور تجربتها الإنسانية الثرية، صباح الاثنين 1 ديسمبر، وأودعتنا ثمرة نضالها وجهدها، وأسلحتها في مواجهة الموت، وحبًا للوطن والحياة.