مصطلح يعني في مفهومي الاعتزاز بالرأي الشخصي إلى درجة أن يصبح الإنسان في كثير الحالات هو مرجعية نفسه، فيخلق عالمًا موازيًا لذاته في ذهنه، ويبدأ في التحرك بين الذات المتخيلة والذات الحقيقية ناقلًا للأفكار ومروجًا لها.. فيؤسس بذلك نسقًا شبه مغلق تكونت به المعارف الكلية من مرحلة ما قبل الأناليزمية، وبقيت على حالها دون زيادة أو نقصان.. ثم ظلت تتبدل وتتحول ذاتيًّا عبر معالجتها للمواقف الخارجية التي تطرأ على الذات الحقيقية.. وتتسم الأناليزمية بالقدرة على التفسير السريع لحوادث الواقع بادعاء أن من يملك منهجًا هو القادر على تفسير الظواهر فور حدوثها دون حاجة للنظر في بنية الحدث أو علاقات التجاور له مع حوادث أخرى أو تداعياته المتوقعة، وغالبًا ما تركن الأناليزمية على حائط ما، قد تكون أيديولوجيا معينة أو نظرية كبرى أو نسق ديني أو بنية ثقافية ما أو متلازمة تنطلق منها في الفهم والتحليل ومن ثم التفسير ثم الفعل.. الفعل هنا غالبًا ما يكون متشددًا وواضحًا وشفافًا وإقصائيًّا، بقدر ما استند في اندفاعه على رؤية وحيدة الخلية معرفيًّا. والذات المتخيلة هي «أناليزم» الذات الحقيقية التي هي الأنا الوجودي.. والشخص غالبًا لا يقبل الفصل بينهما، فوجوده مرتبط بتلك الذات المتخيلة، ولا يحتمل انفصالًا عنها ويتعامل مع الأنا بوصفها تابعًا لقيمة يمتلكها ولا يمكنه التفريط فيها، وفي الغالب الأعم تتضمن الذات المتخيلة مجموعة تناقضات تتماشى مع المرحلة العمرية التي تشكلت فيها معارف الذات الحقيقية؛ فمثلًا تؤمن الذات الحقيقية بأن الحرية ضرورية.. وسيادة السلطة على الأفراد واجب، والاقتصاد التنافسي يدفع الحياة للتطور، والعلاقات الاجتماعية خاضعة للتقاليد ، والدين جزء من الحياة العامة بما فيها السياسة، والأخلاق جزء من الاعتقاد.. إلخ. والذي يحدث أن يقوم العقل المنفعل عند الذات الحقيقية بدمج كل هذه العناصر لتخلق «ذاتًا متخيلة» تتكون عناصرها من تلك المقدمات التي تصبح بالنسبة لها حينئذ مسلمات منطقية تؤسس لمنطق المعرفة لديه. وتظهر عملية الوعي هنا بوصفها تجليًا مباشرًا للذات المتخيلة، فتتخارج في صور شتى، غالبًا من تظهر أثناء النقاش، فالذي يقدس الحياة الأسرية هو نفسه الذي يتمرد على سلطة الدولة، والذي لا يؤمن باعتقاد ديني هو ذاته الذي يرى فصيلًا دينيًّا حركة مقاومة، والذي ينتقد الاحتلال الصهيوني هو ذاته الذي يكره معه الدين اليهودي، والذي يدافع عن التعليم المجاني هو نفسه الذي يرسل أولاده لمدراس أجنبية، والذي يدعم القطاع العام هو الذي يرتاد محلات الملابس التركية، والذي يتحدث عن حرية المرأة هو نفسه الذي يستغلها بشكل ما.. وهلم جرا.. الذات الحقيقية تصبح جزءًا من الذات المتخيلة، أو بالأحرى جزءًا من نسق معرفي يراه الشخص متسقًا تمامًا مع العقل؛ لأنه صار مهزومًا أمام الذات المتخيلة، فلا يمكن لهذا العقل إذن أن يطرح على نفسه رؤى نقدية لأفكاره، ولا يقبل عادة فكرة المراجعات ويعتبرها انتكاسة أو تراجعًا أو هزيمة.. إذن تتحول الذات المتخيلة إلى كائن هلامي ضخم، تمنح صاحبها شعورًا ما بالعظمة والخيلاء وتأمل ما كتبه أو ما تحدث عنه وكأنه إلهام غير مسبوق، فلا يرى سوى ذاته تلك، ولا ينطلق سوى من ثوابتها، وغالبًا ما ينظر للرؤى الكلية الخارجة عنه بوصفها رؤي عظيمة أو ذات قيمة لكنها منقوصة، فالاشتراكية مذهب عظيم، ولكني ضد المساواة العمياء بين الناس، والرأسمالية هي سبب التقدم؛ لأنها تدعم التنافس، ولكنني ضد استغلال الإنسان للإنسان.. وهكذا يكمل المذاهب من بعضها بعضًا بطريقته هو الخاصة.. مشكلة الأناليزمية الكبرى أنها انتشرت بشكل غير مسبوق اليوم في محيطنا العربي والمصري خاصة، فصارت الذات المتخيلة هي الأستاذ والإسناد المعرفي، لذلك تفشى الصدام العقلاني وغير العقلاني، والهوس بالنقض، والانتشاء بالهجوم على الأشخاص والانتقام من أفكارهم، ونمت نوازع الاحتقار من البعض للبعض، وسادت حالة تكسير أو تهشيم أثاث المنزل السياسي بشكل غير مسبوق، فكل شيء مرفوض من السلطة والأحزاب والنخبة والقيادات والآباء، وكل ما يمثل إسنادًا معرفيًّا أو أخلاقيًّا أو تنظيميًّا أو غيرهم.. وليس من حل للأناليزمية سوى بتصحيح مسار الوعي من الذات الحقيقية إلى الواقع المتغير والعكس، وليس من الذات الحقيقية إلى الذات المتخيلة.. ولهذا حديث آخر..