غياب مصر وتبعيتها للسعودية أشعلا الصراع على زعامة الدول العربية بشكل عام بين السعودية وقطر والخليجية بشكل خاص، فمصر حتى الآن مكتفية بموقف المتفرج المندهش لكل ما يدور من حوله، كما أن تسارع الأحداث أربك جميع حسابتها. فترى الرئيس الروسي بوتين على برج القاهرة، ثم تفاجأ بصفقات المقاتلات الأمريكية تجوب سماء القاهرة، وتارة تكون متحمسة للدفاع عن الجيش العربي السوري، الذي يمثل عمقها الأمني، وأخرى تجدها في التحالف السعودي الذي يسعى لتدمير الجيش السوري، كما يلوح في الأفق اتفاق أمريكي سعودي فرنسي سوري إيراني على الرئيس المقبل للبنان، بينما لا أحد يتكلم عن دور مصري. وحتى السودان (عمق مصر التاريخي) تفتت، وفي الطريق سوريا، التي بها الجيش الأول لمصر، والتي تتحرك ضدها الجيوش لتقسيمها، ورغم ذلك لم تستيقظ القاهرة بعد، وتركت الساحة العربية لتفاهمات أطراف خليجية وصفتها المخابرات الألمانية ب "المتهورة"، فبعضهم لا تتجاوز أعمارهم ال 30 سنة، كولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي أعلن مؤخراً عن ضم مصر للتحالف الإسلامي بزعامة الرياض، وأمير قطر تميم بن حمد والذي لا يتجاوز عمره 35 عامًا. لكن العمر وحده لا يشكل العقبة الرئيسية، وإنما تبقى تبعيتهم لأجندات خارجية هي الخطر الأكبر. الخلفية التاريخية للصراع القطري السعودي منذ بداية القرن العشرين والعلاقات القطرية السعودية مضطربة، وذلك عندما طالبت المملكة السعودية بضم قطر لها؛ باعتبارها جزءًا من الأحساء السعودية، وقتها ألحت بريطانيا على الاعتراف بحدود قطربعد ذلك بسنتين. بعد اكتشاف النفط في قطر، تجدد الصراع، وقتها شككت السعودية بأحقية قطر في التنقيب عن النفط الموجود بأرضها من خلال الشركات الأجنبية، وتدخلت بريطانيا من جديد، وأيدت قطر. حتى وقعت قطر والسعودية اتفاقًا يقضي بترسيم الحدود بينهما في عام 1965. ولكن حادثة مركز الخفوس الحدودية عام 1992 شكلت منعطفًا فارقًا في العلاقات القطرية السعودية، وقتها قالت قطر إن قبيلة آل مرة، التي تقيم في كل من: قطر، والسعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين، واليمن، دعمت القوات السعودية على حساب القوات القطرية، وتزامن الحادث وقتها مع طرح قضية التجمع القبلي في المنطقة المتنازع عليها بين السعودية وقطر. وزاد الطين بلة المحاولة الانقلابية التي فشلت على الأمير السابق حمد بن خليفة آل ثاني، التي دبرها والده الأمير الأسبق الشيخ خليفة؛ سعيًا لاستعادة الحكم مرة أخرى، بعد انقلاب ابنه عليه عام 1995. وعلى الرغم من أن الأمير المخلوع قام بالمحاولة وهو بالإمارات مستعينًا بشخصيات قطرية تعيش في الداخل، إلا أن قطر اعتبرت أن أصابع سعودية متورطة في هذه العملية. ومنذ ذلك الحين والأزمة القطرية السعودية في تزايد، وغالبًا ما يتم التعتيم عليها في مواضع معينة، والتشهير بها إن تَطلَّب الوضع ذلك، حيث استخدمت قطر وسائل إعلامها في كثير من الأحيان في حربها الخفية مع السعودية. أيضًا الأزمة السورية أظهرت التنافس السعودي القطري بشكل واضح. فمنذ بداية الأزمة وقطر تحاول الاستئثار بالساحة السورية، وبدت كأنها اللاعب الأوحد فيها، فهي من تدعم المعارضة السورية بالمال والسلاح، وهي من تستضيف مؤتمراتهم، وهي من يعلق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية. الأمر الذي لم يَرُق للسعودية؛ ما جعلها في مطلع عام 2012 تكثف دعمها للفصائل المسلحة في سوريا عبر توحيد الجهود مع كل من قطر والإمارات.وقتها كانت الجماعة المعارضة الرئيسية هي المجلس الوطني السوري، فبدأت السعودية في تسليح المعارضة السورية، بالتنسيق مع قطر، عبر مركز قيادة في تركيا لشراء وتوزيع الأسلحة. في تلك الفترة بدا كل شيء طبيعيًّا، ولكن ما لبث التشنج أن بدأ يظهر بينهما من جديد، وأخذ في التصاعد، والسبب هذه المرة كان الخلاف على أي الجماعات ينبغي تسليحها، فالسعودية ومن خلفها أمريكا عبرتا عن قلقهما من تسليح قطروتركيا للإخوان المسلمين، وقتها حاولت قطروتركيا إنكار هذه التهمة، في نفس الوقت لم يكن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز مقتنعًا بتقاسم السيطرة مع قطر في سوريا. وبدأ هذا التوتر عبر بندر بن سلطان خلال اجتماع لتنسيق شحنات للسلاح، قال فيه "إن قطر مجرد 300 شخص، وقناة تليفزيون، وهذا لا يجعلها بلدًا". ويبقى التوتر بين السعودية وقطر ذا الخلفية المصرية من أهم ملامح الخلاف، فالرياض قررت تأييد الجيش المصري ضد الرئيس المعزول محمد مرسي الذي تدعمه قطر، ولكن ما الجديد في العلاقات المتوترة بين قطر والسعودية؟ الجديد هو إعلان السفير التركي أحمد ديميروك في قطر 16 ديسمبر أن بلاده تعتزم إنشاء قاعدة عسكرية في قطر؛ في إطار اتفاقية دفاعية تهدف إلى مساعدة البلدين على مواجهة "الأعداء المشتركين"، وقال السفير التركي "إن ثلاثة آلاف جندي من القوات البرية التركية سيتمركزون في القاعدة، وهي أول منشأة عسكرية تركية في الشرق الأوسط، إلى جانب وحدات جوية وبحرية ومدربين عسكريين وقوات عمليات خاصة". تَوقَّف مراقبون عند جملة "الأعداء المشتركين"، فحاول البعض أن يطرح اسم إيران؛ باعتبارها قاسمًا مشتركًا بين تركياوقطر، على خلفية النزاع في سوريا، حيث تدعم طهران النظام السوري والمؤسسة العسكرية، بينما تدعم كل من قطروتركيا الفصائل المعارضة للنظام وتسلحهم، وهي فرضية لا تعززها كثيرًا الوقائع السياسية، فتركيا ورغم خلافها مع طهران في الشأن السوري، رفعت حجم التبادل التجاري مع إيران، والذي بلغ العام الماضي حوالي 14 مليار دولار، إلى 30 مليارًا في غضون عامين، كما وقع أردوغان ثماني اتفاقيات في مجالات مختلفة. وإذا كانت قطر نفسها تعتبر إيران عدوة، فما الذي يجبرها على توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بينها وبين إيران؟ حيث التقى قائد حرس الحدود الإيراني قاسم رضائي مؤخرًا بمدير أمن السواحل والحدود في قطر علي أحمد سيف البديد، ووقع الطرفان على اتفاقية تعاون لحماية الحدود المشتركة بينهما، وكانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد عقدت أكثر من 12 اجتماعًا مع قطر في وقت سابق، حيث توصلتا إلى توقيع عدد من الاتفاقيات، تم تنفيذ أغلبها، بالإضافة إلى إجراء تدريبات عسكرية بين البلدين. بعض المراقبين ألمحوا إلى أن السعودية قد يكون لها نصيب وفير من جملة "الأعداء المشتركين"، فتصريح السفير التركي لم يقتصر على افتتاح تركيا قاعدة عسكرية في قطر، بل قال إن القاعدة "متعددة الأغراض"، وستكون في الأساس مقرًّا لتدريبات مشتركة، وإن قطر تبحث أيضًا إنشاء قاعدة لها في تركيا، وأضاف "تواجه تركياوقطر مشاكل مشتركة، وكلانا قلق للغاية بشأن التطورات في المنطقة والسياسات الغامضة للدول الأخرى. إن التعاون بيننا مهم للغاية في هذا الوقت الحرج بالشرق الأوسط". وتابع "إننا اليوم لا نبني تحالفًا جديدًا، بل نعيد اكتشاف روابط تاريخية وأخوية". وأكد المراقبون أن الخلافات التاريخية بين قطر والسعودية مرتبطة بالماضي والحاضر ولها تبعات في المستقبل، وأن ما يربط بين قطروتركيا ويفرقهما عن السعودية هو ملف جماعة الإخوان المسلمين، فالسعودية تسعى لدعم الحركات السلفية "الوهابية" المتسقة في الأساس مع فكر المملكة السعودية، بينما تدعم قطروتركيا جماعة الإخوان المسلمين، والفكرة لها ما يعززها، سواء في سوريا ومصر. كل هذا في ظل سعي السعودية وقطروتركيا المحموم لزعامة إسلامية. هنا تركيا لا تمانع من دعم قطر في محاولتها للاستحواذ على الزعامة الخليجية من السعودية. فمن جهة تسعى تركيا للاستفادة من الغاز القطري في حال إيقاف روسيا الغاز عنها؛ نتيجة الوضع المتأزم بينهما على خلفية إسقاط تركيا للقاذفة الروسية، ومن جهة أخرى تسعى لتجريد السعودية من كونها تدّعي بأنها الناطقة الرسمية باسم المسلمين السُّنَّة في المنطقة؛ لأنه يتعارض مع حلمها العثماني، وهو ما يشير إليه انسحابها من التحالف الإسلامي العسكري بزعامة السعودية واقتصارها على البعد الاستخباراتي فقط. وفي حال استطاعة قطر إزاحة السعودية من طريق تركيا، فقطر لن تقدر أن تحل محل السعودية في الزعامة الإسلامية؛ فقطر دولة صغيرة في المساحة وعدد السكان، وبالتالي يخلو جو الزعامة لتركيا. على ما يبدو أن الأزمة ستزداد بين الأطراف الثلاثة (تركيا، السعودية، قطر)، وخصوصاً بعد التقارب المصري السعودي على خلفية التحالف الإسلامي، وتعرض جماعة الإخوان المسلمين على مستوى العالم للضغط والتضيق من قِبَل الحكومات التي لم تبقَ عربية فقط، فبالأمس القريب ربطت الحكومة البريطانية بين "الإخوان" والتطرف؛ ما سيجعل من تركياوقطر وعلى المدى القريب الدولتين شبه الوحيدتين في العالم الداعمتين لهذه الجماعة، ومن ثم سيؤدي إلى مزيد من التوتر بين قطر والسعودية التي تناهض في الأساس هذه الجماعة.