"أنا بطلع لي ب100 ولّاعة في الوردية " هكذا خاطبني أمين الشرطة المسئول عن تفتيش الركاب في مطار القاهرة وهو يصادر الولاعة. كان بشوشا علي غير عادة أمناء الشرطة، الذين لا أري منهم إلا الوجوه المتجهمة والألسنة البذيئة, وكان منكفئا على عمله في البحث عن الولاعات بحماس, وأحيانا كانت تتلبسه فجأة روح المحقق الفيدرالي فيشرع في استجواب الركاب محل الريبة عما إذا كانت حقائبهم أو جيوبهم بها ولاعات, ثم يباغتهم فجأة بالسؤال "إنت مخبّيها في الشراب .. صح ؟". ورغم أسفاري الكثيرة لا أتذكر أني رأيت ضابطا علي بوابة التفتيش, بل لم أر ضابطا في المطار اللهم إلا من يحمل ختم الخروج. وفي الحقيقة لو تأملت قليلا ستعرف أن مهمة أكاديمية الشرطة الأساسية هي تخريج دفعات من حملة أختام الدولة. كلنا يستخرج شهادات الميلاد والوفاة وبطاقات الهوية وتراخيص المرور وجوازات السفر وتصاريح السفر والعمل, لكن قليل منا من رأي الضابط الذي منحه مستندات الحق في الوجود والحركة. أحيانا ننسي أنها وزارة الداخلية وليست وزارة الأمن. هي الحكومة في عُرف البسطاء, فهذه الوزارة تضم ما يزيد عن أربعين إدارة تشرف على شتى مناحي الحياة من الأحوال المدنية والري والكهرباء والثروة السمكية إلى الإنترنت وإدارة فنادق ونوادي الشرطة والداخلية لكرة القدم, فيما يعمل فيها ما لا يزيد عن 35 ألف ضابط من حاملي الأختام (بحسب البيانات رسمية), والأمن العام واحدة فقط من تلك الإدارات. صحيح أن وزارة الداخلية هي الوزارة الأضخم في عدد الأفراد بعدد يقارب المليون, لكن أغلب هؤلاء هم من مجندي الأمن المركزي –فحم الحريقة ووقود المعارك- الذين يتم انتقاءهم بعناية من محدودي التعليم و الذكاء, وكما يقال داخل أروقة الوزارة –من باب النكات- أنه عند قرعة التجنيد يقف صف ضابط منطقة التجنيد مخاطبا المجندين الجدد طالبا منهم أن يقف الذين يجيدون القراءة والكتابة إلي اليمين، والذين لا يجيدونها إلي اليسار, ليتم شحن الذين يقفون بالمنتصف الي معسكر الأمن المركزي لم يكن جهاز الشرطة في الماضي مسئولا مباشرا عن الأمن العام, ولم يصمم في الأصل لذلك.. ففي حين كانت أفلام السيما تعرض لنا صورة حكمدار العاصمة، الذي يناشد المواطن أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس ألا يتناول الدواء لأن فيه سم قاتل, كان واقع الحال يقول أن مهمة الأمن كانت تتم عبر مناديب كشيخ البلد في القرية، وفتوة الحتة في الأحياء الشعبية, ولاحقا تم الإستعاضة عن هؤلاء بوظيفة جديدة في الجهاز إسمها أمين الشرطة. وفعليا أمين الشرطة هو رجل الأمن الحقيقي في الشارع, فهو من يستوقفك على كمائن الطرق, وهو من يتقدم لفض التظاهرات, وهو من يمسك بالشومة ليحطم واجهات المحلات وكراسي المقاهي في نوبات إزالة الإشغالات, وهو من يقوم بتفتيشك بالمطار, وهو من يعرف المسجّلين, وهو الوحيد القادر علي التعامل معهم والقادرعلي إستخدامهم. وكما كان شيخ البلد وفتوة الحتة يفعلان لتأمين مصدر قوتهما في مواقع لا يتقاضون علي شغلها أجرا مناسبا أو ربما لا يتقاض أحد منهما أجرا بالأساس, يقوم أمناء الشرطة بالأمر ذاته, فتستطيع أن تستخرج رخصة قيادة وأنت في منزلك في مقابل 50 جنيه, كما تسطيع أن تتفادي مخالفة مرور أو كهرباء أو ري إن كنت تعرف ما يحتاج الأمين, كما تسطيع تفادي غرامة زيادة وزن الحقائب بالمطار أو ربما حيازتك لمواد محظورة إن كنت تملك 20 جنيه استرليني. غير أن الضباط حملة الأختام يرون أنفسهم بشكل مختلف, فهم النخبة والقادة والعارفون بالأمور والذين لولاهم لضاعت البلاد. خمسة دقائق في حديث ودي مع أحدهم ستدرك أن خلف الكرش الذي يحدثك والقابع خلف المكتب المقابل رجل مهم يحمي البلد من المؤامرات, وأن البلد لا تُقدّر ما يفعل, وأن ما يجنيه أمين الشرطة الجاهل الوضيع –كما يرى- من الشارع في صبيحة يوم واحد يوازي ما يقبضه في شهر. وربما كان هذا سببا في أن نري مصطفي أنبوبة يقف في شوارع الإسكندرية! إن عجز جهاز الشرطة وفشله الزريع ليس ناتجا عن تحديات أمنية –رغم وجودها- قدر ما هو نتيجة بنيته و تصميمه, فحقيقة الأمر الجهاز لا يواجه مشكلات أمنية جسيمة كتلك التي تنتشر في العالم كالجريمة المنظمة وعصابات المخدرات وتجارة السلاح والإتجار بالبشر, وقد يكون صحيحا ما قاله الفريق شفيق عن كون سكان الوديان أناس سهلي المعشر سهلي الإنقياد, فمصر ورغم إنهيار جهازها الأمني – الفاشل بالأساس- في أعقاب الثورة لم تعانِ بشدة من كوارث أمنية، كأن يحكم مناطق منها أمراء حرب أو عصابات إجرامية, حتي أن عتاة المجرمين المحليين عندما شكلوا عصابات لسرقة السيارات ووضعوا أيديهم علي شقق وممتلكات لآخرين كان هدفهم الأساسي هو "الحلوان" أو "الحلاوة"، التي هي مبلغ من المال نظير إرجاع ما تم سلبه.. لقد كانت الثورة هي لحظة الحقيقة, فجهاز الشرطة الذي توحش وكان مجرد رؤية رجاله في الشارع كفيلا بإثارة الفزع في قلوب المواطنين, ظهر كنمر من ورق أو ك"عسران" السفاح في فيلم الهلفوت, كما ظهر جليا أن دور الشرطة في حفظ الأمن كان أمرا مبالغا فيه بشدة, فقد توقف الجهاز ما يزيد عن العام عن تقديم خدماته للمواطنين ولا أري أن الأوضاع كانت كارثية قدر ما هي الآن والجهاز يحكم. من المهم أن يكون لدى الدول الحديثة جهاز أمني كفء, وكان ذلك ممكنا وكانت هناك العديد من المحاولات الجادة في ذلك وقتما توارت الشرطة من الشوارع في زمن الفرص الضائعة, إلي أن تم ابتذال الهيكلة -كغيرها من الأفكار- بمبادرات كتلك التي طرحها اللواء عباس مخيمر, وإلي أن تم وأدها بتواطؤ جمعي قادته قطاعات محافظة من داخل النظام ومن خارجه بحملات "و النبي ترجع !" التي كانت مصرة علي رجوع ذات الجهاز الفاشل الفاسد المدلل كما هو.. ليس عصيّا أن تبني دولة –أي دولة- جهازا أمنيا قادر علي تفتيش الحقائب في المطار, فالمشكلة ليست في مصطفي أنبوبة الذي من السهل إحالته للتقاعد, وإنما جوهر المشكلة هو ألتراس مصطفي أنبوبة الذي يصر علي أن بقاءه في الخدمة, بل و يراه بطل تايكوندو!