«بريخت الله يرحمه قال إن المسرح هو البيت الثاني للفنان. لكن أنا الله يرحمني برضو بقول إن المسرح هو البيت الأول للفنان..رجعوني بيتي وبلاش الانتحار البطيء بالسبرتو ولا الانتحار السريع بسيانور البوتاسيوم اللي بيتباع فى جميع الاجزخانات.. بلاش .. خدوني معاكم .. بس بشرط .. لا بيع .. ولا شرا .. ولا رشوة .. ولا دعاره ولا شيلني وأشيلك .. ولا مزادات ولا أوكازيون».. هكذا صرخ «نجيب سرور» مرتجلا في نهاية عرض مسرحية «أوكازيون». مشوار حياة الشاعر والكاتب المسرحي والناقد والمترجم الكبير، الذي تصادف ذكرى رحيله اليوم، مثال لحياة الكفاح والنضال التي مر بها كل المناضلين المصريين، في مقاومتهم للحكم الديكتاتوري والسلطوي وللظلم والقهر الذي كانت تمارسه السلطة في عهده. ولد سرور عام 1932 في قرية صغيرة من قرى الدقهلية الفقيرة تسمى إخطاب، مركز أجا، وهي إحدى أهم قلاع الإقطاع المصري في ذلك الزمن، تقتات القرية بجني ما يزرع أهلها وما يربون من الدواجن والمواشي، بعيدًا عن أية رعاية حكومية، وترسل أبناءها بقليل من الحماس إلى المدارس الحكومية المجانية المكتظة بالتلاميذ يتعلمون بشروط بائسة القليل من المعرفة والعلم بعكس مدارس المدن الكبيرة أو المدارس الخاصة ذات المصاريف الباهظة. وكان أبواه يتعرضان للمهانة والضرب من قبل عمدة القرية الذي كان جشعًا جلفًا ظالمًا قاسي القلب يتحكم في أرزاق الفلاحين وفي حياتهم، وكانت هذه النشأة سببًا في ترك بذور الثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين. ورغم كل ذلك فقد تميز سرور في أشعاره بالرقة ورهافة الإحساس، وكان كبير القلب وإنسانًا في جميع المواقف، التي ألمت به على مدى حياته، ورغم الظلم الذي تعرض له، منذ بداياته، فإنه لم ينكسر يومًا من الأيام أمام ظالم أو مستبد أو طاغية. وجعل من الدفاع عن المهمشين والفلاحين والمنكسرين قضية عمره، وجسدها في كل أعماله المسرحية تقريبًا، وذلك لإدراكه أهمية عالم المسرح بالنسبة لهذه القضية، الأمر الذي جعله يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية والذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر. أما التمثيل في نظر نجيب سرور، فكان أداة التعبير الأكثر نجاحاً.. ويذكر أن بعض أصدقائه قالوا إنه لم يلقِ عليهم قصائده بل قام بتمثيلها، حيث كان له من المهارة في الأداء والتحكم بتعبيرات الوجه وحركة اليدين ما يشد الناس. وبسبب كتابات "سرور" وموافقه السياسية عانى الأمرين في السجن والاضطهاد والنفي وعبر عن هذه الحالة ذات مرة عندما لعب نجيب سرور فى مسرحية "أوكازيون" دور مشاهد مخمور، يجد نفسه فجأة في مكان ما فيتعرف بالتدريج على المكان ثم يكتشف أنه مسرح ويكتشف الجمهور أنه فنان ورجل مسرح ومؤلف ومخرج ومُمثل فُرضت عليه البطالة المقنعة عشر سنوات وحُرم طوالها من الوقوف على المسرح فأدمن السكر، ثم يناشد الفرقة الجوالة بأن تأخذه معها وأن تعيده إلى المسرح أو تعيد المسرح إليه. هذا المبدع الذي لم يعد يتحمل هذه الظروف القاسية جعلته يكتب إحدى أهم وأشهر قصائده بلغة هجائية غليظة مليئة بالشتائم، و"أميات" هي استثناء في مسيرة شاعر وكاتب مسرحي، فتجد المعني يرتفع للسماء وتنزل اللغة إلى الأرض, وبعدها يرحل سرور عن الحياة دون يأخذ نصيبه من الشهرة التى نالته بعد وفاته. ويجهل الكثيرون أيضًا، أن نجيب سرور كان ناقدًا فنيًا، حيث قدم النقد للعديد من الأعمال الفنية والروائية، ومن أشهر الأمثله على ذلك، دراسته التي نشرت في «مجلة الثقافة الوطنية اللبنانية» عام 1959 بعنوان «رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ»، توفي نجيب سرور في 24 أكتوبر 1978 بمدينة دمنهور بمصر عن ستة وأربعين عامًا. فأثار رحيله المبكّر اكتئابًا في نفوس محبيه من الأدباء والفنانين والمفكرين والمناضلين والمكافحين، «مساكين بنضحك م البلوه.. زى الديوك والروح حلوه.. سرقاها م السكين حموه.. ولسه جوه القلب أمل» هكذا كانت حياة «سرور».