في إحدى الليالي الشتوية تجد رجلاً يمشي شارداً بثوب مهلهل على كورنيش الإسكندرية, تظل زوجته ساشا تبحث عنه طوال الليل, فترى الصبية يقذفونه بالحجارة وهو يعدو أمامهم حافياً. هل يعرف هؤلاء الصبية أنهم أمام قامة شعرية ومسرحية، أتعبها حب الوطن إلى النخاع ما جعلة نزيلاً على السجون والمستشفيات العقلية، إنه الشاعر والمسرحي والممثل نجيب سرور. والذي نتذكره الآن بعد مرور أربعة وثلاثين عاماً على رحيله. من أسرة فقيرة ولد سرور فى 24 أكتوبر عام 1932 بقرية أخطاب بالدقهيلة ليتفتح وعيه على ظروف مجتمعه القاسية، والتى طالما عانت منها أبناء الطبقة الكادحة من الشعب المصرى، ويشهد على حادثة ضرب خلالها أبيه من عمدة بلدته، وقد كتب عن تلك الحادثة قصيدة الحذاء. واستطاع سرور أن يعكس هذا القهر عبر أعماله المسرحية والشعرية منها " ياسين وبهية، آه يا ليل يا قمر، فارس آخر الزمان ، لزوم ما يلزم ، الطوفان الثاني ، هكذا قال جحا ، وأيضا مسرحية "منين أجيب ناس"، والتي تُلهم إلى الآن الكثير من المسرحيين الذين استعانوا بنصها المسرحي أو عباراتها الشعرية . أما التمثيل في نظر نجيب سرور، فكان أداة التعبير الأكثر نجاحاً.. ويذكر أن بعض أصدقائه قالوا إنه لم يلقِ عليهم قصائده بل قام بتمثيلها، حيث كان له من المهارة في الأداء والتحكم بتعبيرات الوجه وحركة اليدين ما يشد الناس. وبسبب كتابات "سرور" وموافقه السياسية عانى الأمرين في السجن والاضطهاد والنفي وعبر عن هذه الحالة ذات مرة عندما لعب نجيب سرور فى مسرحية "أوكازيون" دور مشاهد مخمور، يجد نفسه فجأة في مكان ما فيتعرف بالتدريج على المكان ثم يكتشف أنه مسرح ويكتشف الجمهور أنه فنان ورجل مسرح ومؤلف ومخرج ومُمثل فُرضت عليه البطالة المقنعة عشر سنوات وحُرم طوالها من الوقوف على المسرح فأدمن السكر، ثم يناشد الفرقة الجوالة بأن تأخذه معها وأن تعيده إلى المسرح أو تعيد المسرح إليه! ويصرخ نجيب سرور فى نهاية العرض مرتجلا: "بريخت الله يرحمه قال إن المسرح هو البيت الثاني للفنان. لكن أنا الله يرحمني برضو بقول إن المسرح هو البيت الأول للفنان..رجعوني بيتي وبلاش الانتحار البطيء بالسبرتو ولا الانتحار السريع بسيانور البوتاسيوم اللي بيتباع فى جميع الاجزخانات.. بلاش .. خدوني معاكم .. بس بشرط .. لا بيع .. ولا شرا .. ولا رشوة .. ولا دعاره ولا شيلني وأشيلك .. ولا مزادات ولا أوكازيون...". وعانى نجيب سرور في حياته كثيراً بسبب اتجاهه السياسي حيث كان يساريا ماركسياً ويجاهر بذلك، وأيضا مع كل نص مسرحي يعارض ويهاجم فيه الأنظمة العربية كان في المقابل يسجن لسنوات طويلة حتى زار مستشفيات الصحة النفسية فأشاعوا عنه الجنون. وعين نجيب مديرا للمسرح القومي براتب متواضع بدون السماح له بممارسة اختصاصاته، وذلك عقب استغاثة زوجته الروسية بوزير الثقافة آنذاك يوسف السباعي، فقد سمحوا لها بدخول مكتبه لاعتقادهم أنها صحفية أجنبية.. وأعطاها يوسف السباعي جواب توصية لمحافظ الإسكندرية يطلب منه منح شقة لأسرة نجيب فى الاسكندرية، وهو الأمر الذى حال تغيير المحافظ دون حدوثه. وتدهورت حالة الشاعر العظيم فيروى أنه كان يجلس في "مقهى ريش", وظل يشرب كميات هائلة من زجاجات البيرة, وفي آخر الليل طالبه الجرسون العجوز "ملك" بالحساب, فيقول له: ليس معي نقود, فيرغمه الجرسون على خلع جاكته كرهينة في عز البرد على مرأى من نجيب محفوظ ويوسف إدريس اللذان لا يحركان ساكناً, ثم يمضي ليبول على التماثيل الواقفة في ميادين وسط القاهرة. ومع ذلك لم يقبل سرور على الانتحار حيث كان يقول " مش ها انتحر حتى لو قتلوكوا يا ولادي ، حتى لو الانتحار كان الخلاص يا مصر، أنا خلاصى خلاصك قولوا يا بلادي، يا بلادى ليه الانتحار والوعد هوه النصر". هذا المبدع الذي لم يعد يتحمل هذه الظروف القاسية جعلته يكتب إحدى أهم وأشهر قصائده بلغة هجائية غليظة مليئة بالشتائم، و"أميات" هي استثناء في مسيرة شاعر وكاتب مسرحي، فتجد المعني يرتفع للسماء وتنزل اللغة إلى الأرض, وبعدها يرحل سرور عن الحياة دون يأخذ نصيبه من الشهرة التى نالته بعد وفاته. تزوج نجيب سرور مرتين خذله الزواج الأول وأما الزواج الثاني فكان من زوجته الروسية ساشا، وأثمر عن ولديه شهدي وأمل ومات نجيب سرور وهو في السادسة والأربعين من عمره. Comment *