منذ نهاية العام الماضي، وبعد توليف الإدارة الأميركية لإستراتيجية محاربة تنظيم داعش، برزت مسألة مجموعات مسلحة تحارب كل من التنظيم والجيش السوري على حد سواء، أطلق على هذه المجموعات اسم "المعارضة المعتدلة"، وما بين الولاياتالمتحدة وحلفائها في المنطقة والإستراتيجية سابقة الذكر، كان تباين تكاملي قد نشأ فيما يخص هذه "المعارضة"، فمن ناحية ولاعتبارات داخلية وأممية تمثلت في كون المسلحين المناهضين لداعش في سوريا أغلبهم مرتبطين بتنظيم القاعدة، العدو الرسمي الذي تخوض الولاياتالمتحدة حرب ضده وضد الإرهاب رسمياً منذ 2001، وكذلك تجريم مجلس الأمن العام الماضي دعم الدول لأي من تنظيمي داعش وجبهة النُصرة وعقوبة من يقوم بذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم الذي يتيح استخدام القوة العسكرية، فضلت واشنطن أن تترك أمر دعم وإعادة تنظيم هذه المجموعات المسلحة المكونة من تنظيمات ومجموعات جهادية في الجولان والشمال والجنوب السوري، وترتبط بالترتيب بتركياوقطر والسعودية، ليخرج علينا منذ الربع الأول من العام الجاري ما سُمى ب"جيش الفتح" المكون بالأساس من جبهة النصرة وجيش الإسلام، بالإضافة لبعض الفصائل الإرهابية الأخرى، وبدأ إعلام هذه الدول يسوّق لجيش الفتح بأنه "معارضة معتدلة" تحارب كل من داعش والنظام السوري. وبعيداً عن تفكيك تناقضات السابق، سواء المتعلقة بالشق الدعائي الذي يقدم القاعدة في ثوب الاعتدال، أو مدى توافق واشنطن مع دعم حلفائها للقاعدة، فإن الولاياتالمتحدة ذهبت مبكراً إلى إعداد برنامج تدريبي لمقاتلين سوريين من فصائل معارضة "مدنية" تتحقق من خلفياتهم الاستخبارات المركزية ويدربهم خبراء البنتاجون. هذا البرنامج المعلن عنه العام الماضي، قد سبقه شهور من التشاور والإعداد لإيجاد آلية تجعله نتاج قرار عدة دول يحظى بشرعية ما كون أفراده سوريين الجنسية، دربوا على يد خبراء عسكريين واستخباراتيين أمريكيين وتمويل خليجي. وذلك بخلاف المجهود الأميركي في دعم المسلحين السوريين في الجنوب السوري، حيث تقود الولاياتالمتحدة من الأردن غرفة عمليات عسكرية تعرب باسم "الموك" بالتعاون بينها وبين تركياوقطر والسعودية وإسرائيل والأردن، كان هدفها دعم المجموعات المسلحة "المدنية" وعلى رأسها ما يعرف ب"الجيش الحر" وعدة فصائل أخرى، ولكن مع بداية العام الحالي، ومع إخفاق هذه المجموعات في تحقيق إنجاز على أرض الواقع، وشبهات التبديد والتبذير التي واجهتها واشنطن بتقليص الدعم المالي وإعادة تنظيم ورسم خطط عمل دعمها لهذه المجموعات فيما يشبه اعادة هيكله لاستراتيجة التدخل في سوريا، على ضوء متغيرات رئيسية منها انفلات داعش واستفحال خطرها، كان الخيار البديهي هو تسريع برنامج المعارضة المسلحة، ليس كبديل، وإنما كمكمل وخطة احتياطية تدفع بدور أكبر لواشنطن في سوريا بجانب حلفائها الإقليميين المتورطين في سوريا. لكن أكثر من 14 شهر من إعلان إستراتيجية أوباما لمحاربة داعش، وما تبعها من غارات جوية ثبت عدم جدوها، وأكثر من عامين على التدخل الأميركي المباشر بالدعم والتسليح، وما يزيد عن سنوات من تنسيق ذلك التدخل عن طريق حلفائها، فأن الولاياتالمتحدة أخفقت في أخر مسعى كان يرجى من وراءه إنجاز شيء ما من مصلحتها في سوريا المتمثلة في إسقاط الدولة وتقسيم البلاد، فبعد ملايين الدولارات والشهور في البحث والتدقيق والتدريب لعناصر برنامج "المعارضة المعتدلة" كان الناتج 70 مقاتل أنضم معظمهم إلى جبهة النصرة بالاستسلام أو مبايعة الجولاني، ما يعني أن قوات "المعارضة المعتدلة المتواجدة حالياً داخل سوريا وتقاتل وفق رؤية وقيادة أميركية وبسلاح أميركي يبلغ تعدادها خمسة أفراد! بالإضافة إلى ذهاب جزء من عتاد هذه القوات إلى جبهة النُصرة، أي أن السلاح الأميركي ذهب مرة أخرى إلى تنظيم القاعدة، الذي من المفترض أنه رسمياً على قائمة أعداء الولاياتالمتحدة. الشكوك حول برنامج تدريب "المعارضة المعتدلة" باتت مؤكدة في الأسابيع الأخيرة، ليس فقط فيما يتعلق بالجدوى والفاعلية في الميدان في سوريا، أو كتابع لفشل الاستراتيجيات الأمريكية هناك، ولكن كونها وبإقرار الأميركيين أنفسهم قد خلقت واقع جديد يقول أن مساعي واشنطن لدور فعال في سوريا على أرض المعركة أصبح "درباً من الخيال (..) ويكرس لفكرة أن السلاح الأميركي في النهاية يذهب إلى المجموعات المتطرفة، وهو ما يعري مصداقية الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب". وذلك حسب قول الجنرال لويد أوستن، قائد القيادة المركزية الأميركية كما نشرتها مجلة فورين بوليسي منتصف الشهر الجاري. وبحسب المجلة نفسها فأن الولاياتالمتحدة قد أنفقت 500 مليون دولار في تدريب وتسليح أربع أو خمس أفراد فقط من ما يطلق عليهم "المعارضة المعتدلة". وحتى الأسلحة والتجهيزات العسكرية الأميركية التي تم إدخالها سوريا مع الدفعة الأولى من أفراد "المعارضة المعتدلة" خرج اليوم المتحدث بأسم القيادة المركزية الأميركية ليعلن أن على الأقل ربعها قد سُلم إلى وسيط يشتبه بانتمائه إلى جبهة النُصرة مقابل مرور آمن لهؤلاء الأفراد من مناطق تسيطر عليها الجبهة، وذلك يُعد الإخفاق الثاني بعد هروب معظم عناصر برنامج "المعارضة المعتدلة" أو انضمامهم إلى النُصرة أو داعش، وبقاء خمسة أفراد فقط من "الفرقة 30″ التي تعد الدفعة الأولى للبرنامج وعددها الأساسي 70 عنصر، وذلك حسب بيان صدر أمس من البنتاجون، بعد بيان نفي صدر الأربعاء الماضي حول الأمر نفسه. هذه الإخفاقات تأتي في وقت تتعالى فيه الأصوات داخل الولاياتالمتحدة، سواء في البنتاجون أو الكونجرس، حول عدم جدوى إستراتيجية أوباما، ومنهج الولاياتالمتحدة ككل فيما يخص سوريا وأزمتها والمتغيرات السريعة التي تمر بها وأخرها دخول روسيا على أرض المعركة، والمطالبة بإعادة هيكلة السياسات الأميركية التي بُنيت على مبدأ تقليص التواجد في الشرق الأوسط الذي يستهلك موارد وجهود الحكومة الأميركية. وعلى مستوى عملياتي يسجل إخفاق واشنطن في تحقيق أي انجاز ضد داعش بانتصارات معنوية للأخيرة، التي ترى في استقالة مسئولين عسكريين أميركيين إخفاق للتحالف الدولي وانتصاراً لها، أخر هؤلاء المستقيلين هو الجنرال جون ألين، قائد التحالف الدولي ومبعوث الرئيس الأميركي العسكري لمحاربة التنظيم الإرهابي. هذا الفشل الذريع يعد منطقي بالنظر إليه في سياق سلسلة الإخفاقات الأميركية فيما يخص الأزمة السورية، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، العسكري والسياسي، وهو لم ينتج عنه فقط انفلات الحلفاء وبحثهم عن حلول تحقق مصلحتهم المباشرة بعيداً عن الرؤية الأميركية وتتعارض معها في الظاهر-مثل جيش الفتح- ولكن أيضاً خلقت هذه الإخفاقات الأميركية فرصة مثالية لأن تتلقفها موسكو وتبني عليها تحركات سريعة وفعالة أفقدت واشنطن وحلفائها المبادرة والمبادأة في سوريا. وانتقالها إلى روسيا وحلفائها، حيث بلورة سريعة لتحرك روسي عسكري وسياسي في سوريا، وأيضا بلورة آلية أمنية واستخباراتية وعسكرية مشتركة تضم موسكو وبغداد وطهران ودمشق، وهو ما يشير إلى أن المبادرة الروسية التي طرحت للنقاش قبل شهرين للحل في سوريا على أساس إشراك السعودية وسوريا في تحالف تقوده روسيا لمحاربة داعش تم تأجيل العمل بشأنها سواء لتلكؤ السعودية وتحفظاتها هي وحلفائها وتعويلها على فرض أمر واقع جديد في سوريا عن طريق جيش الفتح بالتعاون مع قطروتركيا –وهذا أيضاً فشل حتى الأن- أو أن الفاعلية السريعة لروسيا وتحركها على مستوى مواجهة داعش ليس في سوريا فقط ولكن على مستوى المنطقة وحتى دول آسيا الوسطى لم ينتظر موقف السعودية المراهن على الفشل الأميركي المتتابع. موضوعات متعلقة: