برزت أولى ملامح اخفاق الاستراتيجية الأميركية لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" في سورياوالعراق والتي أعلنها الرئيس الأميركي باراك أوباما في سبتمبر الماضي، والتي ترتكز على قاعدتين: الأولى تحجيم قوة التنظيم، والثانية إعداد قوات "معتدلة" من المسلحين في سوريا لتحل جغرافياً محل قوات "الدولة الإسلامية" في المناطق المسيطرة عليها وقتال القوات النظامية. أولى ملامح اخفاق هذه الاستراتيجية تجلت في تصريح لأوباما في فبراير الماضي أن مسألة إعداد قوات تهدف لمقاتلة كل من التنظيم الإرهابي والقوات النظامية السورية مسألة غير فاعلة في ظل سيطرة مقاتلي الدولة الإسلامية على معظم مناطق العمليات في سوري، وأن شدد على أهمية الدعم الذي تتلقاه المجموعات المسلحة "المعتدلة". وفي أعقاب تصريح أوباما السابق، شهدت المجموعات المسلحة المدعومة أميركياً في سوريا تراجعاً في المناطق التي كانت تسيطر عليها، وهي المجموعات التي تعتبرها الإدارة الأميركية "معتدلة"، مثل حركة "حزم" وما تبقى من "الجيش السوري الحر" و "جبهة ثوار سوريا" مقابل سيطرة أكبر لمسلحي "الدولة الإسلامية" و"جبهة النُصرة". وهو ما زاد من وتيرة التشكك من قبل هذه المجموعات بنية الإدارة الأميركية في استمرار دعمهم، وبالتالي أصبح مقدار الدعم الأميركي واستمراره مرتبطا بما تنفذه هذه المجموعات من الأجندة الأميركية، أي بعبارات أخرى، صارت بندقيتهم ملك من يدفع أكثر. ناهيك عن التشكيك أيضاً بنية واشنطن حول جديتها في محاربة التنظيمات الإرهابية متمثله في داعش والنُصرة، أم فقط تحجيم وجودها وليس القضاء عليها. في هذا السياق، ذكرت صحيفة "ديلي بيست" الأميركية في تحقيق نشر أواخر الشهر الماضي، أن المجموعات المسلحة "المعتدلة" التي تلقت دعم مادي وتسليحي من الإدارة الأميركية بمختلف هيئاتها من وزارة الخارجية إلى البنتاجون ونهاية بالاستخبارات المركزية، يعملون في جو من الارتباك والتخبط بسبب تخفيض المساعدات التي كانوا يتلقوها، هذا التخفيض بدأ منذ منتصف العام الماضي، وشمل قطع كامل للمساعدات المادية لبعض المجموعات بحجة عدم كفاءتهم في المعركة، أو تخفيض جزئي للمجموعات الأخرى، ونقلت الصحيفة عن مصادر من داخل سوريا "أنه جرى قطع تمويل أربعة من 16 كتيبة تدعمهم الولاياتالمتحدة وتعمل في الجزء الشمالي من البلاد، وتم إسقاطهم من قائمة الميليشيات المرخصة، وفقا لمصادر رسمية بوزارة الخارجية ومصادر معارضة فمنذ ديسمبر شهدت ال 12كتيبة المتبقية في المنطقة عجزا أو تخفيضات في المساعدات الأميركية الموعودة(..)وكالة المخابرات المركزية قامت بتدريب ما يقرب من 5 آلاف مقاتل في سوريا، اختفى الكثير منهم أو انشق بعض الكتائب كانت تتقرب بشدة من جبهة النصرة أو غيرهم من المتطرفين(..)الكتيبة 7، التابعة لجبهة ثوار سوريا والمنحازة للجيش السوري الحر، لم تحصل على مرتباتها من وكالة الاستخبارات المركزية منذ أشهر، إلا أن وزارة الخارجية حافظت على الشحنات الغذائية إلى الوحدة. أما حركة حزم العلمانية، وهي الكتيبة الأكثر تفضيلا من هؤلاء الذين تدعمهم الولاياتالمتحدة، وواحدة من القلائل التي ستتلقى بصواريخ مضادة للدبابات، فقد شهدت تقليصا كبيرا في الإعانة الشهرية الكبيرة التي تتلقاها لمقاتليها الذين يقترب عددهم من 4 آلاف. فهي تتلقى حاليا ما يقرب من 50 في المئة من الرواتب التي كانت تتلقاها من قبل. وصلت شحنات أسلحة مؤخرا لكن القادة قلقون حول ما إذا كانت الشحنات المستقبلية ستصل. وكتائب الفاروق، وهي ميليشيا تشكلت في الأصل من قبل المقاتلين الاسلاميين المعتدلين ومقرها في مدينة حمص، أصبحت لا تتلقى أموالا لدفع الرواتب في الوقت الراهن". تصف الصحيفة الأميركية هذه المجموعات المسلحة المعتدلة بالقول "من بعيد، تبدو المعارضة السورية -التي توافق عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية وتقوم بتسليحها بشكل جزئي- وكأنها منظمة واحدة كبيرة، وإن كانت غير متبلورة إلى حد ما. ولكنها في الواقع عبارة عن مجموعة من "الكتائب" من أحجام مختلفة –بل وولاءات متغيرة -نمت حول القادة المحليين، أو، اذا صح التعبير، حول أمراء الحرب المحليين. وبينما تتحدث واشنطن عن المعارضة السورية بشكل عام، فإن السؤال الحاسم للمقاتلين في الميدان، ولمن يدعموهم، هو المعارضة لمن؟ للرئيس السوري بشار الأسد؟ أم لما يسمى الدولة الإسلامية، والمعروفة باسم داعش؟ أم لفرع تنظيم القاعدة في سوريا: جبهة النصرة؟ (..)يقوض عدم وضوح الجهد الأمر كله، فمن الطبيعي نتيجة للشكوك العميقة بين الجماعات المتمردة أن تكون واشنطن مستعدة لعقد شبه صفقة مع الأسد في المدى القصير أو المتوسط، إذا لم تكن قد عقدتها بالفعل. وبالنسبة لواشنطن، فإن القلق هو أن القوى التي تدعمها غير فعالة، أو فاسدة، أو سوف تنضم لداعش أو لجبهة النصرة أو إنها تقوم بكل ما سبق". من جهة أخرى أثيرت علامات استفهام حول مسألة جهوزية مقاتلي "المعارضة المعتدلة" التي تعمل الولاياتالمتحدة مع حلفاءها في المنطقة تدريبهم، وذلك بخلاف مسألة استمرار دعم المسلحين المعتدلين في الداخل. حيث أن مسلحي "المعارضة المعتدلة" الذين يجري تدريبهم الأن على قدم وساق بمعسكرات في قطر والسعودية وتركيا، يشكلوا رأس حربة القوات التي من المفترض أن تقاتل كل من تنظيم "الدولة الإسلامية" وتحل محل القوات النظامية في السيطرة على مختلف المناطق في سوريا، ولكن وبحسب الاحصائيات التي أعلنها البنتاجون فأن التدريب والأعداد لما يقارب من 16 ألف مقاتل ستستغرق ثلاث سنوات، وأن الدفعات الأولى قليلة العدد سيكون إدخالها إلى ساحة القتال في سوريا بمثابة مغامرة انتحارية، لأنها ستواجه بشراسة من جانب التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها "الدولة الإسلامية"، مما يعني أن الخط الزمني المتوقع لمواجهة حقيقية لهذا التنظيم في سوريا سيكون أطول من مقابله في العراق، حيث تراجع التنظيم في عدد من المحافظاتالعراقية. مما حدا بالمحلل السياسي الأميركي أندرو باتلر، بالقول أن "الاستراتيجية الأميركية تعاني من تخبط وعدم تنسيق مقارنة بما أنجز في العراق والذي أسهمت فيه واشنطن بقدر ضئيل وخاصة فيما يتعلق بمواجهات قوات البيشمركة-، الجيش الرسمي لأقليم كردستان العراق، الحليف للولايات المتحدة- وتنظيم الدولة الإسلامية، في المقابل جنوباً تركت الإدارة الأميركية الأمر كله للعسكريين الإيرانيين الذين تواجدوا عقب اجتياح الموصل ومنعوا بتخطيطهم وحشد القوات العراقية والميليشيات الشعبية المدربة تقدم مسلحي داعش نحو بغداد والأن يطردونهم من المدن التي سيطروا عليها في الشهور الأخيرة من العام الماضي". وبخصوص هذه المفارقة، يرى المحلل والخبير الأمني بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، جيفري وايت، أن تدريب "المعارضة المعتدلة" أتخذ منحى متباطئ مع الاكتفاء بغارات جوية تعمل على تحجيم تواجد مسلحي "الدولة الإسلامية"، ورسم ما يشبه خطوط حمراء لها، ليس من ضمن هذه الخطوط الدفاع أو المساندة الجوية من جانب قوات التحالف لمجموعات المسلحين المعتدلين في الداخل، الذي فيما يبدو أن واشنطن قررت تقليص دعم معظمهم لحسابات سياسية معقدة، وتبديلهم بمعارضة مدربة ومجهزة أميركياً مئة بالمئة كالتي تتدرب حالياً في تركيا، والتي أعلنت الاستخبارات الأميركية أنه سيجري تحقيق أمني بشأنهم قبل اعتمادهم كمتدربين. ويضيف وايت "غالباً ما تتصف أراضي المعركة في سوريا بالتعقيد وبتواجد مجموعة واسعة من المعتدلين والمتطرفين الإسلاميين وقوات النظام. هل سيتم إطلاع الوحدات المدربة من قبل الولاياتالمتحدة على القوات التي تستطيع التعاون معها وفي ظل أي ظروف، أو هل سيتمتع قادتها بالمرونة والقدرة على اتخاذ مبادرات للعمل مع عناصر معارضة أخرى كما ترتأى؟ ما الذي سيكون أهم بالنسبة إلى واشنطن: التغلب على تنظيم الدولة الإسلامية في المعارك أو المحافظة على "طهارة" القوات التي دربتها؟ وهذا السؤال ليس نظرياً، لأنه يُعتقد أن جماعات أخرى يُقال أنها تلقت مساعدات من الولاياتالمتحدة قد تعاونت عملياً مع جماعات تابعة لتنظيم القاعدة أمثال جبهة النصرة (..) إن إنشاء قوات مدعومة من قبل الولاياتالمتحدة ونشرها للمحاربة بشكل فعال في سوريا يتخطى مهمة التدريب والتجهيز. يجب على واشنطن أن تتوقع أن تواجه القوات صعوبات كبرى وتحديات مباشرة من قبل خصوم متمرسين ومجهزين بأسلحة ثقيلة. ولا بد من التصدي لجميع المسائل المتعلقة بالإستراتيجية والعمليات والقدرات وتأمين الاستمرارية والدعم مع تطور البرنامج. ولا تستطيع الولاياتالمتحدة أن تتكبد تكاليف غزو فاشل آخر في سوريا -على غرار غزو خليج الخنازير الذي فشلت فيه القوات التي دربتها الولاياتالمتحدة في غزو كوبا – بحيث تتعرض فيه قواتها الجديدة للاندحار أو التدمير نتيجة اعتمادها استراتيجية خاطئة أو مفهوماً غير مدروس في عملياتها أو ضعف قدراتها أو نقص الدعم المقدم لها يمكن أن يكون المخططون الأمريكيون قد بدأوا بالتصدي لبعض هذه المسائل أو ربما سيعالجونها مع تطور البرنامج. وعلى أي حال، يُعتبر إنشاء قوات تحظى بدعم أمريكي ونشرها للمشاركة في المعارك جهداً لا يجوز الاستخفاف به. ولا بد من إتمام ذلك من خلال قيام أهداف سياسية وعسكرية واضحة وإستراتيجية عسكرية ملموسة لتحقيقها، ومن الأخذ بعين الاعتبار حالات الطوارئ المحتملة في العمليات. ولغاية اليوم، لم ترتكز المقاربة التي اتبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه سوريا على هذه الخصائص". يمكن القول أنه بعد مرور ما يقارب الستة أشهر على إعلان أوباما استراتيجيته لمحاربة "الدولة الإسلامية" أو ما يعرف إعلامياً ب"داعش" ظهرت أوجه قصور بالغة الخطورة شككت في جدوى وفاعلية الاستراتيجية بكاملها، في الوقت نفسه الذي يتراجع فيه مسلحي داعش في العراق أمام القوات العراقية والحشد الشعبي، اللذان نجحا في إنهاء سيطرة التنظيم الإرهابي على عدد من المدن العراقية الكبرى دون اللجوء إلى استراتيجة أوباما، ودون مساعدة عسكرية أميركية في مقابل دعم إيراني في التخطيط والتسليح. أي بعبارة أخرى قد تبرهن الشهور القادمة إخفاق استراتيجية أوباما التي أثبت الواقع أنها تريد تحجيم داعش لا القضاء عليها أمام استراتيجية إيرانية تهدف إلى العكس.