التقارير تشير إلى وجود حوالي 350 ألف عمل فني مسروق في العالم، لم يتم بعد استرجاعها، منها ما يعاد بيعها في السوق السوداء، ومنها ما يتعرض للتخريب لسبب أو لآخر، وأضيفت مؤخرًا تسع لوحات للرسام الأمريكي أندي وارهول، تُقدر قيمتها ب350 ألف دولار من مقر شركة لوس أنجلوس للسينما، إلى القائمة، بعد أن قام لصوص بسرقتها ووضعوا مكانها لوحات مزيفة، وتم اكتشافها عندما تقرر تغيير إطار لوحتين، وتطلب الأمر إرسالها إلى ورشة خاصة، وفي هذه الورشة اكتُشف أن اللوحتين مزيفتان، لعدم وجود توقيع الرسام عليهما. وتمس ظاهرة سرقة الممتلكات الثقافية من البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، ويشكل الإتجار غير المشروع بالتراث الثقافي جريمة عبر وطنية تمس البلدان الأصلية لهذا التراث وبلدان العبور وبلدان الوجهة النهائية. والطلب على الأعمال الفنية، وفتح الحدود بين البلدان، وتطور شبكات النقل، وانعدام الاستقرار السياسي في بعض البلدان، جميعها أمور تسهم في تواصل عمليات الاتجار غير المشروع بالأعمال الفنية. هكذا تؤكد كل تقارير الإنتربول الدولي، هكذا يوضح دائمًا حجم الأزمة. لذا يعمل الإنتربول على توعية المنظمات المعنية وعامة الناس بهذه المشكلة، والمنظمة تشجع لا أجهزة الشرطة فحسب، بل أيضًا تجار الأعمال الفنية والعاديات وأصحابها على الاضطلاع بدور فعال في عملية تبادل المعلومات، وتعزز هذه التحركات المشتركة الجهود التي تبذلها المنظمة للحد من زوال تراثنا الثقافي، كما أصدر أول نشرة بشأن سرقة أعمال فنية في عام 1947، ومنذ ذلك الحين، تعمل المنظمة على إقامة نظام فعال للغاية لتعميم المعلومات عبر استحداث قاعدة بيانات متاحة لأجهزة إنفاذ القانون ولأشخاص عاديين يُمنحون حقوقا للوصول إلى بيانات محددة. غدت سرقة التحف الفنية تشغل ال«إف بي آي» كما «الإنتربول»، بعد أن بلغت أرقامًا قياسية، إذ سرق 70% من التراث الفني من أفغانستان و15 ألف قطعة من العراق، إثر دخول القوات الأمريكية إليهما، عدا ما يسرق من كبريات المتاحف في فرنساوإيطاليا وبقية أوروبا. وهذا إما بشكل فردي أو عن طريق مافيات منظمة. ومن ثم عدت حماية التحف الفنية النادرة من عمليات السطو والسرقة، على رأس هواجس المؤسسات الثقافية وشغلها الشاغل. صدرت العديد من المؤلفات حول الأزمة، لكتاب من مختلف الجنسيات، ونتذكر الكتاب الذي صدر في باريس، بعنوان «المتاحف الشفافة» لناتانيال هيرسبيرج، في 2012، الذي يرصد في كتابه هذا أهم اللوحات والمخطوطات والنفائس والتحف الفنية التي سرقت في العقود الثلاثة الأخيرة بشتى أنحاء العالم ويصل مجموعها إلى 120 قطعة دون أن يعرف أحد مصيرها حتى الآن. ويلفت المؤلف إلى حقيقة محورية، وهي أن أغلب عمليات سرقة اللوحات والتحف الفنية تتم في ظل حروب أو حملات عسكرية وعمليات غزو لدول أخرى أو حروب أهلية، وهي حقيقة تعود إلى سنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية. وواقع الحال أن بعض المتاحف الأوروبية، وخاصة في إيطاليا واليونان وفرنسا، لا تسلم من محاولات سرقة قطع فنية نفيسة رغم الاحتياطات الأمنية المتعددة، فيما يؤكد ناتانيال هيرسبيرج في كتابه على أن فرنسا صاحبة أعلى نسبة في عمليات سرقة اللوحات والنفائس والتحف الفنية في القارة العجوز. وفي شهر فبراير 2012، سرقت من متحف الفنون الجميلة بجزيرة كورسيكا في فرنسا أربع لوحات، ترجع إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، غير أن الشرطة تمكنت من استعادتها بناء على اتصال هاتفي من مجهول في شهر ماي المنقضي في نهاية سعيدة لا تتكرر في حالات أخرى مثل الحالتين الأفغانية والعراقية وحتى في فرنسا ذاتها. وعلى سبيل المثال، فإن خمس لوحات اختفت من متحف الفن المعاصر في باريس، قبل نحو عامين دون أن تنجح الشرطة في العثور على هذه اللوحات، التي يقدر ثمنها معا ب100 مليون يورو. كما طال المصير ذاته 33 رسما للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، سرقت في عام 2009 من المتحف الباريسي الذي يحمل اسمه. ويكشف الكتاب عن حقيقة لافتة، وهي أن بيكاسو هو الفنان الذي يثير أكثر من غيره شهية لصوص اللوحات الفنية الثمينة في فرنسا، بما يوضح النوعية الخبيرة والمتخصصة للمتورطين في هذا النوع من الأنشطة الإجرامية. ورغم أن قلة من المتورطين في هذه النوعية من الجرائم يعشقون اللوحات الفنية بجنون، فإن كتاب «المتاحف الشفافة» يؤكد على أن الجشع المادي هو الدافع الأول للتنظيمات الإجرامية التي ترتكب تلك الجرائم. والطريف أن بعضها يعرض إعادة التحف المسروقة مقابل فدية كبيرة، فيما تحجم أغلب المتاحف عن الاعتراف برضوخها لهذه العصابات حتى لا تشجع على مزيد من جرائم السرقة الفنية. وكما هو الواقع في دول أخرى يثبت الكتاب أن الافتقار لإجراءات الأمن الكافية هو أكبر محفز لعمليات سرقة المتاحف في فرنسا، ضاربا المثل بتعطل أجهزة الإنذار في متحف الفنون المعاصرة بباريس. أما الرسومات التي سرقت من متحف بيكاسو فكانت محفوظة في صندوق زجاجي لم يكترث أحد بإصلاح أو تغيير أقفاله المكسورة، فيما يشير الكتاب إلى أن حراس بعض المتاحف هم أنفسهم الذين يرتكبون جرائم سرقة اللوحات مثلما حدث في متحف أجاكسيو عندما قام أحد الحراس بالسطو على أربع لوحات. وإذا كان «حاميها هو حراميها» كما يقول المثل الشهير، فإن المتاحف وجدت نفسها مرغمة على زيادة الاهتمام بإجراءات الأمن بعد أن أحجمت العديد من شركات التأمين عن توقيع عقود جديدة مع أي متاحف لا تطبق إجراءات أمنية صارمة. وهكذا زادت ميزانيات تعزيز الإجراءات الأمنية في المتاحف الفرنسية، وفي طليعتها متحف اللوفر الأشهر، الذي يخصص نحو 15 مليون يورو سنويا لحماية مقتنياته النفيسة. كما بات يستعين بتقنيات أمنية بالغة التطور، حسب مؤلف الكتاب، من بينها «تكنولوجيا البطاقات الذكية» التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، فيما بمقدورها تحديد مكان أي لوحة عند سرقتها دون أن ينتبه اللصوص لوجود هذه البطاقات. ومع ذلك شهد العام 2011 في فرنسا 24 حادث سرقة للوحات وتحف ونفائس من متاحف و86 حادث سرقة لقصور و61 حادث سطو على معارض وجاليريهات، بينما يلاحظ مؤلف الكتاب أن الكنائس الفرنسية ذاتها لم تنج من حوادث سرقة التحف الفنية، بل كانت صاحبة الرقم الأعلى في عام 2011 حيث تعرضت ل245 حادث سرقة. ستيفن كوركجيان، واحد من الصحفيين الاستقصائيين البارزين في أمريكا، ويعمل في صحيفة بوسطن جلوب، وهو أحد مؤسسي قسم فريق الأضواء في الصحيفة الذي يتولى مهمة التحقيقات الاستقصائية فيها، وحصل على أكثر من 25 جائزة وطنية وإقليمية مهمة، بما في ذلك حصوله على جائزة بوليتزر ثلاث مرات، كما حصل على إجازة في القانون من كلية الحقوق في جامعة بوسطن». كتابه لصوص بارعون، الصادر هذا العام، يحل لغز أعظم سرقة فنية في أمريكا، وفيه يقول: «في 18 مارس 1990، طلب رجلان يرتديان زي الشرطة الدخول إلى متحف إيزابيلا ستيوارت جاردنر الشهير في مدينة بوسطن، فاستجاب الحارس الذي يجلس على المدخل الرئيس لطلبهما، إلا أنهما قيداه بالأصفاد. وبكل هدوء قالا له «هذه عملية سرقة، لا تسبب لنا المشاكل، ولن تتعرض للأذى» فكان رده «لا تقلقا، هم لا يدفعون لي ما يكفي لأعرض نفسي للأذى». وتعد هذه العملية من أكبر عمليات السرقة الفنية في التاريخ، فقد تمكن اللصوص من سرقة 13 عملا فنيا يقدر إجمالي ثمنها بنحو 500 مليون دولار، لبعض أشهر الرسامين والفنانين في العالم، ورد الحارس الذي لا يخلو من السخرية كان يعكس مشكلة نقص التمويل، وهي أحد المشاكل الكثيرة التي يعاني منها القسم الأمني في المتحف». ويضيف في كتابه أنه قد يكون عاملا مهما في إعاقة التحقيق، الغطرسة المهنية التي يتميز بها عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي. فيكشف كيف أن المكتب استبعد بشكل منتظم ومستمر الجهات الأمنية الأخرى المسؤولة عن تطبيق القانون في المدينة، مثل قسم الشرطة في بوسطن، بالرغم من أن هذه الجهات الأمنية تملك معرفة أفضل بكثير عن كل ما يتعلق بالعصابات المحلية. ويقول الكاتب إن الصحفيين أيضا واجهوا نفس المشكلة، حيث إن عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي والمسؤولين في القسم الأمني في المتحف رفضوا تماماّ النظر في أي احتمال أو نظرية قدمها كوركجيان أو غيره من الصحفيين الاستقصائيين البارزين في بوسطن حول القضية. ورغم مرور ربع قرن على الجريمة، لا تزال هناك بعض الأسئلة المهمة مطروحة بقوة: هل سيرى العالم الأعمال الفنية المسروقة مرة أخرى؟ هل مات الشخص/الأشخاص الذين يعرفون مكان وجود المسروقات الثمينة؟ هل تخلص اللصوص من المسروقات الفنية بإحراقها أو تمزيقها خوفا من اكتشاف أمرهم بعد أن فقدوا الأمل في الاستفادة منها؟ هذه بعض الأسئلة التي قد يطرحها القارئ حتى بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب المشوق دون أن يحصل على أي إجابات.