تشكل قضية الأثار والتحف والنفائس المنهوبة هاجسا يؤرق العالم كله بقدر ماتحولت هذه القضية الى هم عربى فى الأونة الأخيرة وموضع نقاش عام سواء على مستوى الصحافة ووسائل الاعلام او الشارع بما يعكس ادراكا لأهمية الحفاظ على التراث الثقافى فى خضم الثورات والانتفاضات الشعبية. وكانت مصر قد تمكنت مؤخرا من استعادة 122 قطعة اثرية قبل بيعها فى مزاد بأستراليا فيما ترجع هذه القطع الى حقب فى العصور الفرعونية واليونانية والرومانية ومن اهمها تمثال برونزى لأزوريس وتمثال نصفى نادر من حجر الجرانيت وتمثال لاله الحكمة "ماعت" صنع من الزجاج وآخر "للعجل ابيس" ومجموعة من تماثيل "الاوشبتى" التى توضع حسب معتقدات الفراعنة مع الميت لخدمته فى العالم الآخر وتمثال برونزى لأفروديت .
ونجحت السلطات المصرية فى استعادة هذه القطع الأثرية بعد ان اثبتت انها خرجت من مصر بصورة غير مشروعة فيما اوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الدكتور مصطفى امين فى تصريحات صحفية ان القطع المستردة تم ايداعها فى المتحف المصرى لترميمها منوها بأن لجنة فنية تختار اهمها وانسبها لعرضها امام زوار المتحف.
وفى كتاب صدر مؤخرا بعنوان "مطاردة افروديت..البحث عن التحف المنهوبة فى اغنى متحف بالعالم"-يقول المؤلفان جاسون فيلش ورالف فرامولينو انه فى العقود الأخيرة باتت سوق النفائس والتحف التاريخية اكثر ميلا لتعاملات مشبوهة وصفقات منكرة تجرى تحت جنح الظلام.
وعبر الكتاب الذى يقع فى 375 صفحة يستعرض المؤلفان التاريخ الطويل لنهب وسرقة التحف والنفائس والأثار منذ الامبراطورية الرومانية وحتى الامبراطورية البريطانية وصولا للحظة الراهنة.
ويعد متحف بول جيتى الأمريكى الذى يشتهر بمجموعته من الأثار اليونانية والرومانية مثالا لمتاحف تواجه مشاكل بسبب قبولها لبعض الاثار التى نهبت من دول اخرى ونقلت لها بصورة غير مشروعة .
وكان مسؤولون امريكيون قد اعلنوا ان متحف بول جيتى الخاص فى لوس انجلوس وافق على اعادة 40 قطعة اثرية الى ايطاليا من اشهرها "تمثال افروديت" ربة الحب والجمال فى الاساطير اليونانية بموجب اتفاق ينهى نزاعا طال امده بين الجانبين.
والى جانب متحف جيتى-نجح الايطاليون عبر التقاضى امام محاكم امريكية فى استعادة نحو مائة تحفة واثر تاريخى من خمسة متاحف فى الولاياتالمتحدة كانت قد استحوذت على هذه التحف والأثار المسروقة من ايطاليا ومن بينها متحف بوسطن للفنون الجميلة فيما اكتوى الليبيون ابان الحقبة الاستعمارية الايطالية بنهب اثارهم ونقلها لايطاليا.
غير ان الليبيين الآن يواجهون حالة جديدة من السطو على تراثهم الثقافى ونهب اثارهم وصفت بأنها "كارثة" حيث تعرضت كنوز اثرية ليبية للنهب فى خضم الثورة ضد نظام العقيد معمر القذافى.
واوضحت تقارير صحفية ان نحو ثمانية الاف قطعة اثرية سرقت من قبو احد البنوك فى مدينة بنغازى ووصفت بعض هذه القطع بأنها "لاتقدر بثمن".
ومن بين القطع الأثرية الليبية التى تعرضت للنهب والسرقة من قبو اسفل "البهو العثمانى" لمبنى المصرف التجارى الليبى مجموعة من التماثيل النادرة والمجوهرات والعملات القديمة فيما تؤكد التقارير ان هناك محاولات لتهريبها للخارج.
ومن مدهشات التاريخ ومفارقاته ان هذه المجموعة الأثرية التى نهبت مؤخرا كانت قد تعرضت للسرقة عدة مرات خلال القرن العشرين واستولى على اغلبها بعض رموز النظام الفاشى الايطالى بقيادة الديكتاتور بنيتو موسولينى الذى اعتبرها "غنيمة حرب وجزء من الامبراطورية الرومانيةالجديدة" وعرضها فى روما عام 1940 غير ان السلطات الليبية نجحت فى استعادتها فى ستينيات القرن المنصرم.
ووصف يوسف بن نصر احد كبار المسؤولين بمراقبة الآثار فى بنغازى عملية نهب الآثار بأنها "كارثة" حلت على هذه المدينة التى بناها الاغريق فى القرن السادس قبل الميلاد موضحا ان القطع الآثرية التى سرقت هى "كنوز وطنية تاريخية لاتقدر بثمن".
وفى الاتجاه ذاته-قال العالم الآثرى البريطانى بول بينيت وهو من المتخصصين فى الآثار الليبية:"هذه اكبر سرقة نمت الى علمى وثمة مؤشرات تفيد بأن بعض القطع المنهوبة وجدت طريقها للسوق".
واضاف:"ليس بمقدورنا سوى ان نطلب من المؤسسات والجهات المعنية فى العالم كله المساعدة فى استعادة الآثار الليبية اذا ظهرت".
ويتضمن التراث الآثرى الليبى خمسة مواقع ادرجت على قائمة التراث الثقافى العالمى لمنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة " اليونيسكو" وبها مجموعة من اروع الآثار اليونانية والرومانية فيما كانت ايرينا بوكوفا المدير العام لليونيسكو قد حذرت فى مؤتمر عقد مؤخرا بباريس حول حماية التراث الثقافى الليبى من نذر الخطر على الكنوز الآثرية الليبية مثلما حدث فى العراق عندما اختفت الاف القطع الأثرية فور الاطاحة بنظام صدام حسين.
ومن المفارقات ان مدينة سرت التى وصفت بالمعقل الأخير لنظام معمر القذافى كانت قد اختيرت فى مطلع هذا العام كعاصمة للثقافة العربية فيما دفعت المدينة شأنها شأن بقية مدن ليبيا ثمنا غاليا للثورة التى اطاحت بالنظام الاستبدادى وهو نظام انتهك بشدة الحقوق الثقافية للشعب الليبى واهمل لسنوات طويلة المتاحف الآثرية حتى باتت فى حالة يرثى لها.
وواقع الحال ان التاريخ الثقافى العالمى يتضمن صفحات ولمحات دالة حول العلاقة الوثيقة بين انظمة الحكم الفاسدة والمستبدة وجرائم سرقة الآثار والعدوان على التراث الثقافى للشعوب.
ففى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهيرة يوم الخامس من اغسطس فى عام 70 قبل الميلاد-شهدت روما الجلسة الافتتاحية لمحاكمة جنائية مثيرة وترافع ممثل الادعاء الشاب ماركيوز تيوليوز سيزيريو ليتهم مسؤولا فى الامبراطورية الرومانية هو جيوس فيريز بالسلب والنهب وسوء الادارة اثناء فترة حكمه لجزيرة صقلية حتى لم يعد بالوسع اعادة الأمور فى الجزيرة لما كانت عليه قبل ولاية فيريز التى استمرت ثلاث سنوات عاث فيها فسادا.
ورغم تعدد الجرائم التى ارتكبها فيريز فان اكثرها سوءا وبشاعة من وجهة نظر الادعاء ولعه بسرقة التماثيل من المعابد والاعمال الفنية وروائع التحف والنفائس التى اهداها حكام اخرون لصقلية غير انه من الغريب فى هذه القضية التاريخية ان جيوس فيريز نجح فى الفرار خارج صقلية ليعيش فى المنفى قبل ان يصدر القضاء حكمه بعد سماع المرافعات البليغة لممثل الادعاء ماركيوز سيزيريو الذى اختير فيما بعد كقاض للامبراطورية الرومانية .
ومنذ هذا الزمن البعيد تحول فيريز الى علامة للصوص الأثار وناهبى كنوز ونفائس وتراث الأوطان وكأن اسمه يعنى ان هناك جريمة نهب تحف او نفائس وقعت فى مكان ما بهذا العالم فيما يتضمن كتاب "مطاردة افروديت" العديد من اسماء تجار الأثار والمتعاملين فى هذا العالم الغامض والحافل بالأسرار .
وقبل الاتفاق الذى ابرم بين السلطات الايطالية ومتحف جيتى هددت روما بقطع كافة علاقاتها الثقافية مع المتحف ان لم يرد التحف والتماثيل المسروقة ومن بينها تمثال افروديت البالغ طوله سبعة اقدام ونصف القدم والذى نهب على الأرجح من منطقة مورجانتينا.
ومن المعتقد ان تمثال افروديت ربة الحب والجمال فى الاساطير اليونانية قد اشتراه متحف جيتى فى عام 1988 من تاجر اثار فى لندن ب18 مليون دولار دون معرفة اصل هذا التمثال الذى يعود للقرن الخامس قبل الميلاد فيما اعيد التمثال بالفعل مؤخرا لمتحف ايدونى فى صقية.
وسمى متحف جيتى على اسم قطب النفط الراحل بول جيتى الذى تبرع فى وصيته للمتحف بمليار دولار فيما يسرد كتاب "مطاردة افروديت" وقائع مثيرة للعنة هذا المتحف منذ بدايات الثمانينيات فى القرن العشرين حيث اختلطت فضائح الآثار المسروقة والتحف المنهوبة بعمليات تزوير وتزييف وحتى تحرشات جنسية ليتحول المتحف الى علامة لسوء السمعة واشارة لعالم الاسرار الشنيعة لتهريب الاثار.
ويوضح جاسون فيلش ورالف فرامولينو فى كتاب "مطاردة افروديت " ان السلطات الايطالية اسست ادارة خاصة فى الشرطة تضم خبراء متخصصين فى قضايا الاثار المنهوبة والتحف المسروقة والعمل على استعادتها بقيادة قضاة وقانونيين يشار لهم بالبنان فى هذا المجال المتصل بحماية التراث الوطنى للبلاد وذاكرة ايطاليا.
ويكشف الكتاب الجديد ايضا عن ان السلطات الايطالية اولت اهتماما خاصا للصحافة والاعلام فى الدول التى تستحوذ على تحف واثار ايطالية منهوبة بغرض كسبها لصفها فى معركة استعادة هذه النفائس وهى معركة اتخذت صورة المنظومة المتكاملة العناصر والمتناغمة معا بغرض الفوز وفضح لصوص الآثار ومن يتعامل معهم .
ويؤكد كتاب "مطاردة افروديت" على ان قصة الآثار والتحف المنهوبة فى هذا العالم هى قصة الصراع بين الفن والسلطة والثروة فيما يورد العديد من المكاتبات والوثائق القانونية المتعلقة بمعارك قضائية لاستعادة نفائس مسروقة والمساجلات بين الدول التى سرقت منها هذه النفائس والمتاحف التى تحتفظ بها فى دول اخرى. وسيبقى العار يطارد اسوأ انواع اللصوص الذين سرقوا جزءا عزيزا من تاريخ الشعوب وتراثها الثقافى.