شهد المجتمع الإسلامي هزات عنيفة بعد وفاة الإمام علي، فمعاوية لم يف بوعوده الخاصة بالشورى وتدوال السلطة، بل على العكس سعى بكل قوة لتوريث الحكم لابنه يزيد، لتتجدد الخلافات مرة أخرى، فكثير من المسلمين يرون أن أحفاد النبي الحسن والحسين أولى بالحكم، وعلى الجانب الآخر هناك بنو أمية ومناصروهم، وهناك الخوارج الذي كفَّروا الإمام على ومعاوية من قبل وتبنوا رؤية سياسة مغايرة لنظام لحكم. استشهاد الحسين بعد وصول يزيد إلى الحكم قرر أن يقضي على كل هذه الخلافات بحد السيف، وهنا شهدت الدولة الإسلامية في فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنوات، سلسلة من الجرائم والمذابح لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدولة القصير، ومن أبرز هذه الجرائم انتهاك حرمة أهل بيت رسول الله، وقتل الإمام الحسين ومن معه من اُسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد الى بلد، وبعد هذه المذبحة انتهك يزيد حرمة مدينة المنورة وقتل أهلها وأباح أعراضهم لجيشه؛ لأنّهم استعظموا قتل الإمام الحسين وثاروا ضد يزيد وطيغانه، وبعد ذلك حاصر بجيشه مكّة المكرمة، وقتل آلاف الأبرياء داخل الحرم المكي. ساهمت هذه الجرائم التي ارتبكها يزيد بن معاوية بشكل كبير في تمدد الصراع السياسي ليصبح عقائديًّا، خاصة في ظل تحول شيعة وأنصار الإمام الحسين إلى مضطهدين ومطاردين من قِبَل جيش يزيد، ومع مرور الزمن، تطور الأمر وساهم رجال الدين بتحالفهم من الحكام الفاسدين في تضخيم الخلافات العقائدية بين السنة والشعية، لتحل محل الخلاف الرئيس والأساس، وهو الخلاف السياسي والاجتماعي كما أشرنا سلفًا، وفيما يلي نرصد أبرز النقاط والخلافات العقائدية بين السنة والشيعة. الخلافات العقائدية أولًا الإمامة: واحد من أبرز القضايا الخلافية بين السنة والشعية كما أشرنا سابقًا هي من يخلف النبي، فالسنة يقولون إن النبي محمدًا قد مات دون أن يحدد من يخلفه، وبالتالي فقد اجتمع كبار الصحابة في سقيفة بني ساعدة وقاموا باختيار أبا بكر الصديق خليفة لرسول الله، بينما يرى الشيعة أن النبي محمدًا قد ذكر في أكثر من موضع أن الخليفة من بعده هو ابن عمه وزوج ابنته علي بن أبي طالب ثم إلى 11 إمامًا من بعده. ويستدل الشيعة عن ذلك بحديثين هما حديث الغدير وحديث الخلفاء الاثني عشر. ثانيًا العصمة: يؤمن الشيعة بأن الله منح العصمة من الخطأ للأنبياء ثم للأئمة؛ حتى يكونوا مرجعًا ودليلًا للأمة هؤلاء، بينما يرى أهل السنة أن العصمة هي للأنبياء وحدهم. من هنا فإن الشيعة لا يأخذون عن الصحابة؛ لأنهم مختلفون في الرأي والاجتهاد لكنهم يأخذون عن الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت. ثالثًا المهدي المتظر: من النقاط الخلافية أيضًا شخصية المهدي المنتظر، فالشيعة يعتقدون بأنه سيأتي في آخر الزمان ليعيد الحكم لبيت النبي وينصر شيعته وأتباعه ويقيم الدولة الإسلامية من جديد، بينما يرى السنة أن المهدي المنتظر سيبعث ليقود المسلمين السنة في حرب كبيرة ضد اليهود. رابعًا الصحابة: السنة والشيعة يرون أن الصحابة هم بشر يصيبون ويخطئون، لكن الخلاف يكمن في أن الشيعة يعتقدون أن من بين الصحابة العادل الفاضل ومن بينهم المنافق الفاسق. على الجانب الآخر يعتقد السنة أن الصحابة كلهم عدول فضلاء لكن هناك درجات لعدلهم وفضلهم، فيقولون إن أفضل البشر بعد الأنبياء هو أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهكذا، وعلى الرغم من إنكار السنة وانتقادهم للشيعة في قضية الأئمة المعصومين، إلى أن السنة يكررون ذات الأمر مع الصحابة والتابعين فيتعاملون معهم بصورة أقرب إلى التقديس والعصمة، ويغذي هذه المشاعر رجال الدين لكي يحافظوا على مكاسبهم وسلطتهم. خامسًا أمهات المؤمنين: السنة والشيعة يعظمون زوجات النبي جميعًا، لكن الشيعة يرون أن عائشة قد خالفت شرع الله وخرجت على الإمام "علي" إمام المسلمين ولم تحقن الدماء، كما أنها كانت تؤذي الرسول "صلى الله عليه وسلم"، بينما السنة على العكس من ذلك يرونها أحب الناس إلى قلب النبي محمد. وهناك خلافات أخرى في بعض الطقوس والعبادات، لكنها خلافات هامشية ومرتبطة بنمط التدين الشعبي، وتختلف من طائفة شيعية لأخرى، وتمارسها بعض الطوائف السنية، مثل جواز الاستغاثة بالصالحين وزواج المتعة والأذان والتقية. والملاحظ أن معظم هذه النقاط الخلافية بين السنة والشيعة مرتبطة بمنظومة الحكم والشأن السياسي والاجتماعي، وقد اتسعت رقعة هذه الخلافات لتشمل بعض الجوانب العقائدية، ومعظم هذه الخلافات العقائدية ليس مرتبطًا بأصل الدين، فالسنة والشيعة يعبدون آلهًا واحدًا، ويؤمن بالنبي محمد وبذات القرآن، ويصلون نفس الصلوات ويتعبدون لرب واحد ويمارسون ذات الشعائر الدينية، يبقى السؤال: إذن لماذا يتم تصوير الخلاف السني الشيعي باعتباره صراعًا عقائديًّا وخلافًا دينيًّا؟! وقد سعى العديد من العلماء والمفكرين المسلمين طوال قرون إلى التقريب بين السنة والشيعة وتغيير الأفكار المشوهه لدى العامة من السنة والشعية، هذه الأفكار التي ترفض الآخر وتكفره وتتعامل معه بوصفه خطرًا على الدين! من أبرز المبادرات في هذا الشأن، قيام المؤسسة الأزهرية في الأربعينيات من القرن الماضي بإنشاء أول دار للتقريب بين المذاهب، وكان على رأس الدار شيخ الأزهر محمود شلتوت، والشيخ الإيراني تقي الدين، وقام الأزهر في هذا التوقيت أيضًا بمواجهة شيوخ الوهابية المتطرفين الذين يكفّرون الشيعة، وأعلن الأزهر حينها أن الخلاف إن وُجد، فهو خلاف في الفروع وليس في الثوابت والأصول، وعلى الجانب الآخر فقد كان هناك العديد من رجال الدين الشيعة، الذين حاولوا حل هذه الخلافات، وفي هذا السياق قال السيد علي السيستاني، أحد مرجعيات الشيعة الكبيرة: إن مسألتي الإمامة والمهدي المنتظر قابلتان للبحث والاجتهاد، وإنهما ليسا من الأصول عند الشيعة. لكن رغم المبادرات والاجتهادات للتقريب بين السنة والشيعة، فغياب الإرادة السياسة يهمش هذه المبادرات ويحد من تأثيرها.