في ظل تفاقم أزمة الرأسمالية، وانطلاقا من انهيار منظومتها المالية، يلقي المفكر سمير أمين، الضوء على الخيارات الاستراتيجية، التي سوف تطرحها "الانتفاضات القادمة للطبقات الشعبية/ضحايا الأزمة"، وذلك وفقا لمقدمة كتابه الصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعنوان "في نقد الخطاب العربي الراهن"، والذي جاء في 143 صفحة من القطع المتوسط. قبل أن يفرد أمين، فصلا كاملا ل"ضبط المفاهيم"، قام عبر ثلاثة فصول بنقد خطاب كل من: الرأسمالية، والقومية العربية، وأخيرا الإسلام السياسي، معتمدا في ذلك على أربعة دراسات تسعى لنقد الخطابات السائدة مصريا وعربيا وعالميا، والتي أتاحها له مركز البحوث العربية والإفريقية، إذ يهتم المفكر المصري بكشف وإظهار التباس المفاهيم المستخدمة في الخطابات المشار إليها، والتي لا تتعدى وفقا للكاتب، كونها مجرد مقولات لفظية فرضتها "الموضة" المستوردة من الولاياتالمتحدةالأمريكية. يؤكد أمين، أنه من المهم معرفة تاريخ المصطلحات السياسية، وذلك لإدراك مضامينها، وكذلك معرفة الظروف المحيطة بنشأة تلك المفاهيم والمصطلحات، لأنه بتغيير تلك الظروف يتغير المصطلح ويفقد صلاحيته. ولأن بعض المصطلحات قد يستفز حساسيات خاصة لدى الشعوب، فقد عمد الكاتب على كشف "موضات" اللغة السياسية، والتي لا تعتبر محايدة على الإطلاق، كما يقول، لأنها ستلهم النظريات التي تختفي وراءها. لذلك يرفض أمين، بعض المصطلحات المطروحة، ويتمسك بالبعض الأخر، وقام بشرح أسباب رفضه، كما شرح أسباب قبول بعضها لصلاحيتها في تحليل واقع الرأسمالية القديمة والمعاصرة. يتمسك الكاتب بمفهوم "البروليتاريا"، ذلك المصطلح الدارج في اللغة الماركسية التاريخية بأنواعها، والذي يعتبر جوهر العلاقة الاجتماعية التي يتسم بها نمط الإنتاج الرأسمالي، إلا أن المفهوم تخطى الشروط الاجتماعية التي أنتجت الفصل بين العامل وأدوات الإنتاج، حيث البروليتاري هو الإنسان الذي لا يملك سوى قواه للعمل، بل إن توسع المجالات التي تربط رأس المال بالعامل الأجير، طورت شكل العلاقة ليصبح هناك منتج مستقل ظاهريا ولكنه خاضع لرأس المال، وهو ما يطلق عليه "شبه بروليتاري"، مثل الفلاحين المستقلين ظاهريا. وعليه، فإن تنوعت أشكال تجلي وجودها بحسب الكاتب، الذي أفرد مساحة لتبيان استقلال الطبقات الشعبية والشعب عن مفهوم البروليتاريا، إلا أنهم أحد أشكالها، ويرى أمين، أن إلغاء مفهوم البروليتاريا من الذاكرة والتحليل، يترتب عليه عدم المعرفة بمسار الصراعات، وبالتالي يكون ذلك سببا لإنتاج الفوضى لا التقدم. ويتوقف سمير أمين، في هذا الفصل عند مصطلح "المجتمع المدني"، واصفا إياه بالمصطلح الأمريكي الأصل، ويجد مرجعيته في ما يسميه "أيديولوجيا التوافق"، بمعنى قبول جوهر مباديء اقتصاد السوق (الرأسمالية) وممارسة الديموقراطية التعددية الانتخابية دون مزيد، بل يفترض هذا الخطاب ضمنا نظرية اجتماعية لا تهتم بالدولة، إذ إنها تعتبر أن الدولة تمثل العدو، من حيث المبدأ، لأنها لا تضع حدودا لممارسة الحرية التي تصير بدورها، وعمليا، حرية المبادرة في إطار العلاقات الاجتماعية الخاصة بالرأسمالية، فلا يهتم خطاب المجتمع المدني -بالتالي- بالبحث عن الطابع الطبقي للسلطة السائدة، هذا بالإضافة إلى أن الدعوة إلى رفع شأن وتقدير منظمات المجتمع المدني ترسي قبول شرعيتها وصلاحية ممارساتها بالجملة، وبالتالي تضع على قدم المساواة منظمات ذات أهداف رجعية مع منظمات تقدمية، على أساس أنها جميعا تعادي النظام، وينتهي أمين إلى أن منظمات المجتمع المدني تلك، لا تعدو كونها حزم وصل توظفها القوى الاستعمارية. وأخيرا، يتوقف أمين، عند "الفقراء والمستضعفين والعدالة الاجتماعية"، كاشفا لغة الإحسان التي تبلورت قبل الفكر الحديث ومنه الاشتراكي، وأن ممارسات الإحسان قديمة قدم الإنسانية، وكرستها العقائد الدينية، فالفقراء والمساكين والشحاذون يتكتلون أمام أبواب المساجد والكنائس والمعابد منذ زمن بعيد. ويوضح الكاتب هنا أن القاسم المشترك الذي يشمل جميع خطب الإحسان، هو تجاهل أسباب الفقر وإغفال التساؤل حول الآليات الموضوعية التي تنتجه، ويؤكد أن العودة لمثل هذه الخطابات تمثل ردة لا تقدما، وأنها تصب في صالح الرأسمالية لا في صالح الفقراء، حيث إنها تسعى لتكريس السيادة لا غير. لذلك يخلص أمين، إلى أن اللغة الحديثة ومصطلحاتها ليست موضوعية أو عملية، ولا يمكن وضعها في مقابل مصطلحات العلوم الاجتماعية الحديثة ومنها الماركسية، والتي يقال إنها تنتمي إلى الماضي، بل إن الحقيقة في وجهة نظر الكاتب أن الأمر على العكس تماما، "فالمصطلحات المطروحة في إطار (الموضة) الأمريكية الأصل، هي أيديولوجية بحته وغير علمية، وتنتمي للماضي".