كتب هدير محمود ومحمود علي: يعتبر الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" أحد الشخصيات السياسية البارزة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط خلال القرن العشرين، حيث كانت جميع دول العالم تتعامل معه كأبرز ممثل للدول العربية، وكان أحد الشخصيات الأكثر شعبية في العالم، فعلى الرغم من مرور حوالي 45 عامًا على رحيله، إلَّا أن أفكاره وإنجازاته ومشروعاته الوطنية والقومية لاتزال تحكي فترة من أهم فترات نهضة الأمة العربية. الوحدة مع سوريا كانت سوريا مركز الثورة العربية الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى، وأول بلد عربي يستقل بعد الحرب العالمية الثانية، وأول المشجعين لجهود "ناصر" في توحيد الدول العربية، مما دفع الضباط السوريين من ذوي الاتجاه القومي العروبي إلى لعب دور بارز فى مساعدة مصر أثناء العدوان الثلاثي، بنسفهم لخط أنابيب البترول الذي يمر عبر سوريا، حاملًا البترول إلى أوروبا، وأصبح واضحًا لكل القوى الطامعة في المنطقة أن هناك محورًا مصريًّا سوريًّا مناهضًا للغرب وعملائه يخرج منتصرًا من حرب السويس. تمكن عبد الناصر من تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958، ففي سبتمبر عام 1957 احتشدت القوات البرية التركية على طول الحدود السورية، معطية بذلك مصداقية للشائعات التي ادعت أن دول "حلف بغداد" كانت تحاول إسقاط الحكومة اليسارية في سوريا، وحينها أرسل "ناصر" بعض الوحدات إلى سوريا كعرض رمزي للتضامن، مما رفع مكانته في الوطن العربي، خاصة بين السوريين. ومع نمو عدم الاستقرار السياسي في سوريا، أرسلت الأخيرة وفدًا إلى "ناصر" للمطالبة بوحدة فورية مع مصر، فأرسل "ناصر" أسطولًا مصريًّا يضم بضع ناقلات للجنود وثلاث مدمرات وصلت إلى ميناء اللاذقية السوري في 13 أكتوبر 1957 لتحمي استقلال سوريا وتحبط مخطط الغزو الخارجي، وتحدث دويًّا عالميًّا يوضح أن مصر لن تسمح بترك سوريا نهبًا للمؤامرة العالمية وأن استقلال سوريا من استقلال مصر. وتعالت الأصوات فى سوريا المطالبة بالوحدة مع مصر، لكن الزعيم القومي اشترط أن يتم إجراء استفتاء شعبي على الوحدة في مصر وسوريا، حتى يقول شعبا مصر وسوريا رأيهما في الوحدة، ويعبرا عن إرادتهما الحرة وهو الشرط الذي ينم عن دهاء سياسي بالغ وبُعد نظر ملحوظ، فإجراء استفتاء شعبي يعني أن الوحدة مطلب شعبي جماهيري وليس نخبويًّا سلطويًّا، وبالفعل في 1 فبراير عام 1958 أعلنت الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، ولاقت هذه الخطوة الوحدوية صدى واسعًا لدى الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. دعم اليمن أثناء احتفال "ناصر" بالوحدة مع سوريا وخلال زيارته لدمشق في 24 فبراير عام 1958، أُرسل ولي عهد الإمام بدر في شمال اليمن إلى دمشق ليعرض عليه ضم بلاده إلى الجمهورية الجديدة، وانطلاقًا من رغبه "ناصر" في توحيد كل الدول العربية، وافق على إنشاء اتحاد فدرالي مع اليمن ليسمى "الدول العربية المتحدة". في العام 1962، اندلعت الثورة اليمنية ضد الحكم الملكي للإمام البدر، واستعانت الثورة بالعسكريين لتنفيذ مهمة وضع خطة "خلع الإمام" في ألمانيا، وسافر قائد الثورة "عبد الرحمن البيضاني" حينها إلى القاهرة، عارضًا الخطة على الرئيس "جمال عبد الناصر"، الذي وافق على دعمهم انطلاقًا من مبدأه القديم في محاربة "الأنظمة الملكية"، التي كان يطلق عليها النظام الناصري وقتها "الأنظمة الرجعية". تدخلت مصر لحماية الثورة اليمنية، وأرسل "عبد الناصر"، حوالي 55 ألف جندي، تم تقسيمهم إلى 13 لواء مشاة ملحقين بفرقة مدفعية، فرقة دبابات والعديد من قوات الصاعقة وألوية المظلات، وقال "ناصر" حينها: مشاركة مصر في حرب اليمن جاءت لنصرة المبادئ وليس الأشخاص، وأضاف: "ساعدنا الجنوب العربي لكي نقضي على الاستعمار البريطاني، والآن صنعاء تنعم بقيام نظام حكم وطني". لبنان وتمدد حلم الوحدة لم يتوقف حلم القومية العربية عند سوريا واليمن، بل امتد إلى لبنان، حيث غازلها حلم الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة، متراهنه على ذلك القائد العربي الأول فى التاريخ الذي يتبنى القومية العربية ويدعو للوحدة العربية، مدعومًا بكل إمكانيات مصر كأقوى قُطر في الأقطار العربية، مما يجعلها كفيلة بنجاح الوحدة العربية، وفي مايو عام 1958، حدثت اشتباكات بين الفصائل المؤيدة لعبد الناصر والمعارضة له، حيث طالبت الفصائل اليسارية المؤيدة له بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة، بينما أرادت الفصائل اليمينية المعارضة له استمرار استقلال لبنان. استقلال تونس والجزائر قدم عبد الناصر الدعم من أجل استقلال تونس والجزائر والمغرب عن الحكم الفرنسي، رغم أن ذلك شكل تصادم مع المصالح الإقليمية لكل من المملكة المتحدة وفرنسا، حيث أدانت الأخيرة دعمه القوي لاستقلال الجزائر، واهتاجت حكومة "أنطوني إيدن" حينها في المملكة المتحدة من حملة عبد الناصر ضد "حلف بغداد" الذي جمع بين بعض الحلفاء الإقليميين للمملكة المتحدة، واعتبره عبد الناصر تهديدًا لجهوده للقضاء على النفوذ العسكري البريطاني في الشرق الأوسط، وآلية لتقويض جامعة الدول العربية وإدامة التبعية العربية للصهيونية والإمبريالية الغربية. أغضب دفاع عبد الناصر عن استقلال تونس والجزائر من الاستعمار الفرنسي، القوى الغربية كثيرًا، مما دفع الولاياتالمتحدة وبريطانيا فجأة إلى سحب عرضهما لتمويل بناء السد العالي، بحجة أن الاقتصاد المصري سيغرق بسبب هذا المشروع، وهو ما قابله عبد الناصر بقرار تأميم شركة قناة السويس سنة 1956، كوسيلة لتمويل مشروع سد أسوان في ضوء انسحاب القوات البريطانية الأمريكية، ولاقى ذلك استحسانًا داخل مصر والوطن العربي، رغم ما أدره على مصر من عدوان اجتمعت فيه إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، وسمي ب"العدوان الثلاثي" انتهى إلى نصر سياسي كبير للرئيس عبد الناصر، ليكرس بذلك مكانه إلى الأبد في التاريخ كثائر أممي ضد الاستعمار. السعودية تنوعت العلاقات المصرية السعودية خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بين الشد والجذب، فنشبت العديد من الخلافات العميقة بين الدولتين التي أثرت في العلاقات بين البلدين، فكان الملك الراحل سعود بن عبد العزيز يرى أن الرئيس عبد الناصر منافسًا شرسًا له على استقطاب حب الشعوب العربية، كما أن "ناصر" يقف أمام النفوذ المتصاعد للمملكة بأفكاره وسياساته التي وجدت ترحيبًا كبيرًا في العالم العربي. جاءت الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958، لتسبب أزمة حادة في العلاقات المصرية السعودية، فقد أبدى الملك رفضًا قاطعًا للوحدة، ورأى فيها تعاظمًا لنفوذ مصر الإقليمي والدولي يهدد نفوذ السعودية، وحاول إفشالها بكل الطرق إلَّا أنه فشل. حاول الملك السعودي قيادة محاولة انقلاب دبرها مع بعض العناصر المتأمرة في مصر؛ للتخلص من ذلك الرجل الذي يزيد نفوذه وقوته وشعبيته يومًا بعد يوم، وفي ربيع عام 1957 أحبطت أجهزة الأمن المصرية محاولة الانقلاب، وعندما تم فضح أمرها زادت العلاقات بين البلدين سوءًا. قاد ملك السعودية الراحل العديد من محاولات التخلص من عبد الناصر عبر اغتياله، فجاءت المحاولة الأولى عبر تقديم رشوة إلى مدير المكتب الثاني في سوريا عبد الحميد السراج، بلغت 12 مليون جنيه إسترليني، لكن سراج جارى المتآمرين وحصل منهم على شيكات بالمبلغ المرصود للمؤامرة، ثم أبلغ الرئيس عبد الناصر بكل تفاصيل المؤامرة، وأذاعها الرئيس في خطاب علني من شرفة قصر الضيافة بدمشق لشعب الجمهورية العربية المتحدة، فيما جاءت المحاولة الثانية عبر محاولة تفجير طائرة الرئيس "عبد الناصر" فى الجو يوم قدومه إلى دمشق لأول مرة كرئيس للجمهورية العربية المتحدة. مع نشوب ثورة اليمن عام 1962، رفضت السعودية بقيادة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز التعاون مع الرئيس جمال عبد الناصر لتحرير اليمن، وتمكين الثورة بقيادة بعض الضباط وعلى رأسهم المشير عبد الله السلال للخروج على الإمام محمد البدر حميد الدين، الذي هرب إلى السعودية، فبدأت السعودية والأردن وبريطانيا وأمريكا بدعم جماعة الملك الهارب وتسليحها، إلَّا أن مصر قصفت قواعدها داخل جازان ونجران فانتهت وقضت مصر على بقايا الملكية في اليمن. على الرغم من الهدف الوطني الذي تبناه عبد الناصر حينها بتحرير عدن وتحرير باب المندب وخروج الإنجليز وإعلان الجمهورية العربية اليمنية وهو ما حدث بالفعل، إلَّا أن خوف الملك فيصل من تمدد الفكر الاشتراكي الذي يقوده "ناصر" داخل الأراضي السعودية ويهدد وجود الأسرة الحاكمة وبالتالي زوال العرش السعودي، دفع ملك الرياض إلى دعم النظام الملكي في مواجهة الجمهوريين الذين كان يدعمهم الرئيس جمال عبد الناصر. من جانبه قال الدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية: الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دعم تراجع الغزو، داخليًّا وخارجيًّا، وعمق سياسته نحو القومية العربية، وزاد من تأييده لحركات التحرر القومي، ووقوفه ضد سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. وأشار زهران إلى أن عبد الناصر اتجه إلى حتمية ومسؤولية مصر كفاعل جوهري في نطاق ثلاثة دوائر هي: العربية، الإفريقية، والإسلامية، وبفعل هذه السياسات أصبحت القاهرة مركزًا للمؤتمرات الآسيوية والإفريقية ذات البرنامج واللغة المعادية للغرب، ومن ناحية أخرى تضمنت دعوة عبد الناصر للقومية العربية خصومة تجاه النظم المحافظة في العالم العربي، التي أدت إلى تأييد مصر للنظام الثوري في اليمن وانغماسها العسكري في هذا البلد من 1963 إلى 1967. وأرجع أستاذ العلوم السياسية، سياسات عبد الناصر العربية الأفروآسيوية إلى فهمه العميق، شأنه شأن محمد علي، للعوامل التاريخية والجغرافية لمصر والتي تحسم في النهاية مصائرها، مؤكدًا أن جمال عبد الناصر تيقن أن أمن مصر يعتمد على شيئين "النيل"، والذي يضمن أن حاكم مصر يكون له سياسة إفريقية، وجسر أرضي إلى آسيا، ويعني أن يكون له سياسة شرقية، وقد أدرك ناصر أيضًا من قراءته التاريخ أن حكام مصر العظام من تحتمس الثالث حتى محمد علي قد نظروا إلى حدود مصر الحقيقية، باعتبارها أبعد بكثير إلى الشرق حتى سوريا. وأضاف جمال أن لثورة يوليو بقيادة عبد الناصر دورها الكبير في صياغة وبلورة العالم الثالث ورسم الطريق الثالث، طريق الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وفي النضال من أجل السلام القائم على العدل، وفي الدعوة إلى التعاون الدولي من أجل الرخاء، مؤكدًا أن ناصر تفهم إلى حد كبير طبيعة الظروف التاريخية المحيطة به، وعاش أبعاد عالمنا وعصرنا محددًا مكان الأمة العربية في هذا العالم الكبير. يقول جمال زهران: هنا يبرز أيضًا الدور العالمي لثورة يوليو ولعبد الناصر، الذي مكَّن سياسات عبد الناصر العربية من التأثير على مجريات الأحداث بالمنطقة، ودفع عجلة تحرير الشعوب في آسيا وإفريقيا ودعم ثورات التحرير، والمشاركة في رسم السياسات الدولية. وفي السياق ذاته؛ قال السفير رخا أحمد حسن، مساعد وزير الخارجية الأسبق: قامت السياسة المصرية تجاه العرب في فترة جمال عبد الناصر على عدة أسس؛ منها العمل على وحدة الأمة العربية سواء الدستورية والقانونية أو وحدة الصف العربي، ثم تشكيل تحالف واسع على امتداد العالم العربي من الدول التقدمية، وتشكيل جبهة على مستوى العالم العربي لمحاربة السيطرة الأجنبية ومكافحة الاستعمار، وتقديم كافة أوجة المساعدة الاقتصادية والسياسية والمادية الممكنة لحركات التحرر الوطني في العالم العربي، ودعم جميع الأنظمة التقدمية التي تؤمن بالقومية وتحرير البلدان العربية من السيطرة الأجنبية. وأضاف رخا في تصريحات ل"البديل" أنه كانت هناك رغبة لدى جمال عبد الناصر بأن تقوم الوحدة العربية على أسس مدروسة، وفي ظل ظروف مهيئة تساعد على بقاء هذه الوحدة، إلَّا أن ما حدث هو ضغط سوري على مصر، طلبًا للوحدة العربية بعد التهديد التركي ضد الأراضي السورية. وفيما يخص القضية الفلسطينية، كانت تجمع بين شقين بالنسبة لسياسة عبد الناصر الخارجية، الأول مرتبط بالأمن القومي المصري، من منظور أن فلسطين على الحدود المصرية، وأن هذه أراضٍ عربية تم اغتصابها من قِبَل كيان محتل رفض تنفيذ القرارات الدولية التي صدرت في ذلك الوقت، والشق الآخر متمثل في شخص جمال عبد الناصر عندما أصيب في حرب 48 وكاد الرصاص الإسرائيلي أن يقتله.