"لقد كافح الآباء وكافح الأجداد من أجل هذا اليوم العظيم الخالد، لتكون أمة العرب أمة واحدة، وبفضل كفاحكم وثباتكم ورفعكم راية القومية العربية استطعنا أن نحقق هذا الحلم. اليوم ونحن نستقبل أول أيام الجمهورية العربية المتحدة، نستقبله بإيمان، ونشعر بالقوة، ونشعر بالعزة، والهتافات التي كنتم تنادون بها في دمشق منذ سنين طويلة، والخطب التي كنتم تلقونها، والأماني التي كنتم تتمنونها، وكانوا يتمنونها في كل قطر من الأقطار العربية، وفي كل بلد من البلاد العربية؛ هذه الأماني تحققت اليوم.. لقد قامت الجمهورية العربية المتحدة لترفع راية الحرية، ولترفع راية السلام، وراية القوة والعمل والإقدام." الرئيس جمال عبد الناصر 24/ 2/ 1958 بمناسبة قيام الوحدة بين مصر وسوريا *********** مصر تحت الحكم الملكي.. والملك فاروق فوق عرشها، بينما تسقط وزارة وترتفع أخرى كل يوم في مثل هذه الأيام، كانت قاهرة المعز تزأر من الظلم والبغي. في مثل هذه الأيام كانت قاهرة المعز تنعم بأزهى عصورها. لا تستعجب أيها القارئ العزيز فهكذا هي مرحلة ما قبل الثورة، مرحلة غامضة يقول عنها بعض المؤرخين أشياء والبعض الآخر يقول أشياء مغايرة، ولكن الثابت أن القاهرة وقتها كانت قد خرجت لتوّها مجهدة من الحريق المروع الذي التهم أغلب مناطقها -راجع حريق القاهرة في يناير 1952- فظهرت مجموعة من أبنائها في قلب الأحداث عُرفوا فيما بعد بالضباط الأحرار الذين قادوا ثورة ناجحة لاقت قبولاً شعبياً فيما بعد، واستطاعوا أيضاً من خلال هذه الثورة أن يرفعوا راية الاستقلال في مصر. ولكن لم تكن راية الاستقلال هي الراية الوحيدة التي رفعتها الثورة، بل رفعت إلى جوارها راية القومية العربية، تلك القومية العربية التي التزمت بها الثورة وتحديداً الرئيس جمال عبد الناصر لأبعد الحدود. والآن وبعد مرور 58 عاماً على ثورة 23 يوليو وبعد مرور المدة ذاتها على القومية العربية -بمعناها الثوري- يجب علينا أن نتوقف قليلاً كي نلتقط أنفاسنا ونتساءل.. أو بالأحرى نقارن ما بين قوميتنا العربية أثناء ثورة 23 يوليو وقوميتنا العربية الآن.. ولكن وقبل أن نبدأ في هذه المقارنة يجب علينا أن نوضّح الأسباب التي دفعتنا دفعاً إلى عقد هذه المقارنة؟!! بالتأكيد تدهور العلاقات العربية المصرية هو سبب أصيل وراء هذه المقارنة، فبعد أن كانت القاهرة عاصمة العرب، باتت هذه العاصمة متنقلة في كل دولة عربية على حدة تبقى فيها مدة وتنتقل لغيرها حسب ما تقتضي بوصلة "المصلحة"، فلو كانت مصلحة هذه الدول مع قطر فلتكن إذن الدوحة هي قلب العروبة النابض... ولو كانت غداً مصلحتها مع السعودية فلتكن السعودية هي الدولة الأهم... إلخ. حريتنا في قوميتنا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان بدوره عهد الثورة، كان يُنظر إلى القومية العربية على أنها هي السبيل الوحيد للحرية، فكان "ناصر" يرى أن السبيل الوحيد للتحرر من سطوة الاستعمار العسكرية والاقتصادية هي في وقوف العرب يداً بيد على كل المستويات، حتى لو تطلّب الأمر تكوين تحالفات كما حدث بين مصر وسوريا، وكما سنعرض لاحقا لهذا الجزء. وبالتالي قامت القومية العربية لمصر في عهد الثورة، و"عبد الناصر" على مجموعة من الركائز الهامة، والأفكار التي تشربها كل عربي في هذه الفترة.. تعالَ معي لنلقي نظرة مقربة على مصر ودول العالم العربي وقتها فماذا نرى؟؟ مصر والجزائر على قلب واحد وليس على كرة واحدة نرى مصر تدعم الثورات الشعبية ضد مستعمري وحكام الدول العربية، فهكذا كان موقف مصر من الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي على سبيل المثال، والتي كانت أحد أسباب اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر فيما بعد، فلقد قام الرئيس "عبد الناصر" بدعم الثورة الجزائرية بالمال والسلاح، بل وخرج بيان الثورة الأول من مصر وتحديداً من إذاعة صوت العرب في الأول من نوفمبر عام 1954، حينما كان صوت العرب يخرج حقاً من مصر.. ليست الجزائر وحدها من حظي بمساعدة مصر، فلقد أرسلت مصر جيشها لليمن عام 1962 من أجل دعم الثورة والانقلاب على الحكم الملكي الذي كان مسيطراً على شئون البلاد آنذاك، ومهما اتفقت أو اختلفت مع التدخل في اليمن، ولكن ما يجب أن نقف لديه، هو هذا التحالف العربي الذي لم يعتبر غريباً وقتها وهذا الدور المصري الذي اعتبر طبعاً في هذه الفترة.. "وحدة ما يغلبها غلاب" قالها محمد قنديل وأخطأ لم تكن مساعدة الثورات هي فقط ما ميز هذه الفترة، بل أهم ما ميزها هو التحالفات العربية التي قامت بها والتي لم -وغالباً لن- يشهدها العالم العربي ثانية، فها هي الجمهورية العربية المتحدة أو التحالف المصري السوري الذي تم بين البلدين عام 1958 يظهر بمثابة تتويج للقومية العربية التي طالما حلم بها الرئيس "عبد الناصر"، وعلى الرغم من فشلها فيما بعد عام 1961 وعلى الرغم من الاتهامات العديدة لبعض الدول بالتآمر على هذه الوحدة، إلا أنها طُبعت في التاريخ العربي كرمز من رموز القومية العربية، وكمثال واضح لما يمكن أن يحدث عندما تتحد الأمة العربية تحت راية واحدة.. لم تكن الأمور السياسية المعقدة وحدها هي ما يرمز للقومية العربية، بل حتى شئون الحياة العادية كان هناك اتفاق عربي حولها، فها هو "عبد الناصر" يسارع بإرسال جيوش من المدرسين إلى الدول العربية وعلى وجه الخصوص دول الشمال الإفريقي –المغرب والجزائر وتونس وليبيا- لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اللغة العربية التي كادت أن تلقى حتفها على يد المستعمرين الفرنسيين والإيطاليين. لم يحدث هذا من مصر كوسيلة للتحكم، بل حدث بشكل طبيعي تقبّلته الشعوب والحكومات على السواء، كان وصف مصر بالشقيقة الكبرى، وصف طبيعي لا يثير أي نوع من السخرية والحساسية، لن نقول أن العالم العربي وقتها كان جنة الله على الأرض، ولكن رغم أي مشاكل أو سلبيات حدثت به، يمكننا أن نقول إنه كان عالما واحدا ويدا واحدة، تختلف وتتصارع وربما تقتل فيما بينها، ولكن يحدث ذلك داخل البيت العربي. تغيرت السياسات العامة كثيراً منذ زمن "عبد الناصر" كلّمني عن القومية والمصلحة الاقتصادية أما القومية العربية بالشكل الذي تراه القيادة المصرية الحالية وتحديداً بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1977 وإلى الآن فقد اختلفت كلية عن قومية عبد الناصر، وانتقل الاختلاف من الشقيقة الكبرى -وهي التسمية التي أصبحت تطلق كوسيلة للتندر- إلى كافة العالم العربي.. فقد تغيرت السياسات العامة كثيراً منذ زمن "عبد الناصر" حتى هذه اللحظة سواء في علاقاتنا بالدول العربية أو بالولايات المتحدة وإسرائيل.. زمن "أبّجني تجدني" باتت العلاقات (المصرية العربية - والعربية المصرية) تتحدد بشكل كبير على حسب المصالح الاقتصادية، فتحظى مثلا دول الخليج الغنية باهتمام غير قليل من قبل القيادة المصرية، وإن كان ذلك لا ينفي أن هذه الدول تسعى أيضاً إلى مصر وبنفس القدر رغبة في الاستفادة مما تبقى لمصر من مكانة إقليمية، لذلك نجد مثلا العلاقات المصرية الإماراتية رائعة وعلى أفضل ما يكون، ويكفي أن مدينة سكنية كاملة (هي مدينة الشيخ زايد) مهداة لمصر من قبل رئيس دولة الإمارات، وكذلك الحال بالنسبة للسعودية صاحبة أكبر جاليات سياحية عربية تزور مصر في فترة الصيف وأكبر استثمارات عربية في مصر وأكبر نسبة عمالة مصرية بالخارج توجد بالأساس في السعودية، وهذه الأمثلة للذكر وليس للحصر، ويُستثنى منها قطر لأسباب خاصة سوف يعرفها الجميع ولكننا سنتعرض لها لاحقاً. ليست المادة فقط هي أهم ما ميّز -أو شوّه حسب الزاوية التي تنظر من خلالها- بل خذ عندك القضية الفلسطينية، هذه القضية الحساسة بالأخص تتحدد بشكل كبير على أساسها العلاقات المصرية العربية، لذلك نلاحظ توترا دائما بين كل من مصر ودولة قطر.. فمن ناحية تشكّل قناة الجزيرة القطرية صداعاً في رأس النظام المصري؛ لاتهامها الدائم لمصر بأنها المسئول الأول والوحيد عما آل إليه الوضع في فلسطين، واختصارها الدور المصري في العالم العربي في القضية الفلسطينية وحدها، واتهامها في تجويع أهالي غزة، وكأن غزة هي فلسطين والسلام هو المعبر، كما ترى الجزيرة.. وبما أن قناة الجزيرة ممولة بالأساس من قبل النظام القطري، وتحت إشراف الشيخة "موزة" زوجة أمير قطر فكان طبيعيا أن يكون لما تذيعه هذه القناة مردود على المستوى الرسمي بين البلدين، ولكننا لا نغفل في هذا الشأن أيضاً أثر إصرار قطر على التسلق عربياً على حساب مصر في العلاقة بين البلدين كما يرى النظام المصري، ولذا فها هي العلاقة العربية - العربية بين مصر وقطر، يشوبها دائماً قيم جديدة لا تمتّ للقومية العربية بصلة، قيم من الصراع والمنافسة ومحاولات تشويه الخصم... إلخ. سودان واحد ولا اتنين مش مهم..المهم النيل رايح على فين؟! ولكن دعنا الآن نترك الجزيرة القطرية وندخل على الأمن القومي، وهي الكلمة التي نسمعها مئات المرات في اليوم الواحد، إن قضايا الأمن القومي أحد الأشياء التي تحدد علاقات مصر بالدول العربية إذا كان لهذه الدول الأطراف أي تأثير على ذلك الأمن القومي، فعلى سبيل المثال العلاقات المصرية السودانية ما تلبث أن تأخذ منحنيات عدة؛ كان المنحنى الأول هو منحنى التعاون والتآخي بصورة كبرى نظراً لوجودهما سويا في مركب واحد فيما يتعلق بأزمة مياه النيل، ولكن في الوقت الحالي ظهر لاعب جديد في المنطقة ألا وهو جنوب السودان الذي من الممكن أن يتم إقراره كدولة مستقلة في استفتاء "نيفاشا" في عام 2011 وبالتالي هذه الدولة سوف يكون لها أثر كبير فيما يتعلق بدول المنبع التي تريد إعادة توزيع مياه النيل بما يؤثر على حصة مصر.. وهكذا سقطت شعارات مثل القومية العربية، فلم نعد نهتم بها ولا بالعلاقات المصرية السودانية.. فجنوب السودان له علاقة الآن بأمننا القومي المائي، وبالتالي قدّمت له مصر منحة قيمتها 300 مليون دولار في صورة مشروعات تنموية وخدمية ضاربة بعرض الحائط بصرف التوتر القائم بين جنوب السودان وشماله المتمثل في الحكومة السودانية الحالية. وداعاً للقومية العربية ويا أهلاً بالقومية المصلحجية إذن يمكننا القول إن القومية العربية في الماضي كانت أكثر عاطفية ولا تهتم بمصالح الدول، كانت تمثل حلم للوحدة والتآخي، وغيرها مِما أصبح مجرد شعارات اليوم.. في حين كانت قومية النظام الحالي مُفرّغة من معناها الحقيقي، وأكثر اعتماداً على المصالح والأمن القومي للدول بعضها البعض، وبالتالي اختفت تماما القومية العربية الناصرية فيما بعد الثمانينيات، ليظهر مكانها القومية المصلحجية. قومية "عبد الناصر" حوّلت مصر إلى أمّ كبرى فقيرة تعطي كل أكلها لأولادها، وقومية النظام الحالي جعلت نفس الأم تحاول استرداد الطعام من بطون أبنائها الذين يعلنون العصيان والحجر عليها دون أدنى شفقة.. كلاهما فشل.. وكلاهما انسحق لمعرفة كيف تنظر إسرائيل إلى ثورة يوليو؟ اضغط هنا لقراءة ذكريات صحفي إسرائيلي عن ثورة يوليو اضغط هنا