كريم الصياد، واحد من تلامذة المفكر العربي الكبير الدكتور حسن حنفي، يعكف حاليًا على استكمال مشواره الفلسفي في ألمانيا، وله مشروع سوف نتطرق إليه خلال حوارنا معه، بعد صدور ديوانه الجديد «آلهة الغسق»، عن دار شرقيات، بعد فترة من التوقف عن كتابة الشعر.. فإلى نص الحوار: بداية.. ألهة الغسق، هو أول إنتاج إبداعي لكريم الصياد، بعد إعلانه التوقف عن كتابة الشعر خلال السنوات الأخيرة، ترى ما الذي ورطه مرة أخرى في التجربة؟ "آلهة الغسق" تجربة شغلتني طويلاً كفكرة، لكنها لم تتحقق كتجربة شعورية حية معيشة إلا بعد سفري إلى ألمانيا لتحضير الدكتوراه. عانيت الوعي بالمكان في بُعده، والوعي بالأب في فقده، بما تحمله التجربة من إمكانيات الغوص عميقًا إلى روح الشعوب الأوروبية لكشف الروح القديمة الوثنية في الوعي الغربي، وهي الروح التي تمد جزءًا كبيرًا من الديوان بحياته الخاصة، بالإضافة إلى إمكانية التعرف إلى المجتمع الثقافي الغربي من قرب. أعلنت اعتزال الأدب في أبريل 2012 ولم أعد إلى الكتابة إلا في مايو 2014 تحت ضغط التجربة، من حيث حدتها، ومن جانب جدتها. وأنا سعيد بهذه العودة. تصدر الديوان إعلان عن متتالية شعرية، من أجزاء خمسة، هل لنا أن تحدثنا عن مفهوم "المتتالية" الشعرية، هل هي الحل الشعري الجديد الذي يساعد الشاعر على الإنتاج واالمضي في مشروعه الإبداعي؟ "آلهة الغسق" جزء ثان من متتالية شعرية بعنوان "إصدارات حديثة عن دار الجحيم" كان "منهج تربوي مقترَح لفاوست-2009″ جزأها الأول. المتتالية الشعرية كبنية ليست جديدة، وتعني رسم ملامح تجربة كبرى، شعورية وفنية وجمالية، من خلال دفقات مكثفة متعاقبة، هي الدواوين أو الأعمال عمومًا التي تتكون منها. أجد وعيي دائمًا يتجه إلى فكرة المشروع والتصميم الأعلى فالأكثر تعاليًا. لا أجد مجالاً مناسبًا للتعبير في المدى القصير والعمل المفرد. تهدف هذه المتتالية "إصدارات حديثة" إلى طرح وجه مختلف للوجود الإنساني الأرضي غير السماوي وغير المعتمد في وجوده على غيره. حدثنا عن التقاطعات بين مشروعك الشعري، ومشروعك الفلسفي؟ مشروعي الفلسفي يتكون من جانبين: نقد العلوم الإسلامية كمساهمة في المشاريع الفكرية العربية المعاصرة، وهو ذو وجه اجتماعي-واقعي، وقد صدرت منه أبحاث ومقالات كثيرة في صحف مصرية وعربية ومجلات علمية وكتب غير ما ينتظر الطباعة، والجانب الآخر هو الفلسفة السلبية أو (الفَقْد)، وهو ما لم يصدر أي من أجزائه بعد. والجانبان يتوازيان مع تجربتي الشعرية في مسار واحد، إن الفكرة التي يعيها الشاعر عن طريق خبرة حية معيشة يمكن له أن يعبر عنها فلسفيًا وأن يقيم منها نسقًا. وتختلف اللغة بين الشعر والفلسفة: في الأول هي شيئية، وفي الثانية هي شارحة. القصيدة الفلسفية هي مشروعي الشعري. وهي التي تقوم على توليد وعي جديد بفكرة معينة عبر نقل الخبرة المعيشة-التي كانت سببًا في الوعي بهذه الفكرة-عند القارئ، بحيث يتوصل القارئ-دون تصريح بالفكرة بلغة مجردة مقالية ودون استعمال معجم فلسفي-بنفسه إلى الوعي الذي للشاعر. اعتمدت في قصيدة العاصمة، على استخدام الأشكال الهندسية كالدائرة وغيرها، فهل جاءت القصيدة على هذا الشكل، نتاجًا لتجربة السنوات الأخيرة، أم أن الأمر يرجع إلى التجريب؟ وما آثر الكتابة بهذا الشكل على مسار التجربة؟ قصيدة العاصمة تجربة اعتمدت فيها على عنصرين تشكيليين: التفريعات الشجرية، والأشكال التصويرية، مثل تصوير حائط برلين بخط أسود يقصم الصفحات نصفين، وتصوير الجدران المحيطة بميدان التحرير بالقاهرة بجدران سوداء عليها نقوش أو جرافيتي. إنها محاولة لرسم القصيدة واستعمال لغة جديدة غير العربية والألمانية المستعملتين في الديوان. أتوقع أن أتوسع في المستقبل في صياغة هذا النوع من القصائد، التي يضيف فيها الشكل للغة أبعادًا مختلفة. ومن أجواء الديوان: قصيدة «جزءٌ مِن عشرة أجزاء مِن ألف جزء» لا توجد سجائر في هذه المدينة. لقد نَفَوْا كل أطفال الدخان وهم يرضعون. رأيتُ آثار أقدامهم الحافية الدقيقة على السماء، وهم يخرجون منها؛ فالسماء لم تعد تستقبل سوى أسلاف الأدخنة، وهم يعلنون انتصار الأجيال، ويتّخذون بعضهم بعضًا من مداخن المصانع والحروق، ويحملون عبقَ الأرض. كيف نقضي عشية الثورة برئات عذراوات، لا تتنفس السماءَ؟ كيف نستعد للدمار، ونحن لا نحترق؟ كيف نقول أننا مستعدون للموت، ونحن لا نفتح له حَوْصَلاتٍ ليحرث حدائق الهواء؟ إنه يكذب.. من آمن بشيء، وهو لا يهاب الموت. السماء تستهين به، والآلهة يلفونه في كفن رقيق، ويدْعونه تبغًا ممتازًا، ثم لا يستنشقونه! لا تكن لفافة تبغ بين إصبعي إله. كن جثة محترقة، مدفونة على عمق سحيق، في صدور الطواغي. * * * جارتي اللا دخانية.. تتهمني بالشيشة والسعوط، وقليل من (تبغ المضغ). تراني-أنا مواطن العالم الثالث- إرهابيًا محتمَلاً، أريد اغتيال السماء البيضاء، ولو بدون سجائر. تقول أن الإسلام جنسية. فأرد عليها أن النازيين قالوا قولتها عن اليهود أول مرة. وأختبئ خلف حجارة اليهود وأشجارهم. وأشعل ما التفَّ من التبغ، وأتمنى للسماء اختناقًا هادئًا. هذا الدخان يا سماء.. جزء من عشرة أجزاء من ألف جزء.. مما تَحَارَق من الروح. * * * لا أزفر الدخان، في ليالي الاعتبارات، بل أتركه يتسرب من مواضع تقبيلي للهواء، ثم تمتد أذرعه، وتُجسِّد -في نماذج نصف مرئية- ما أفهمه من موسيقا، وأهز رأسي موافقًا في تأسٍ، كلما أبصرتُ شكلاً جديدًا، وأقول أنني يومًا سأكون قد خلقت كل الصور التي احتزاها الآلهة، وأقول بوعي مكتمل، وإرادة لا دور لها، أنني أحدهم، قد نفوني عن مجلسهم؛ لأنهم لا يدخنون. * * * الدخان عزيزٌ، يحمل رائحة الأب الراحل، والأصدقاء الأبعدين، يحمل مشهد صديقتي، التي احتوت يدي بحنان، وأنا أحكي لها عن امرأة أخرى، يزرع في خلاياي السرطان، ويحصد المحبة، وهو أرحم القاتلين. # Köln 26.1.2015