بعد إنكار وتعتيم لمدة عام، بدأت دوائر إسرائيلية الحديث عن أسرى وجثث جنود إسرائيليين لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس، وربما فصائل أخرى في القطاع الذي شن عليه حرب انتقامية تجاوزت في الزمن والمدى والتدمير أي عدوان سابق في العِقد الأخير، الإنكار الإسرائيلي بدأ حتى قبل انتهاء الحرب، من نفي لوجود أسرى أحياء لدى المقاومة، وأشهرهم الجندي شاؤول آرون والضابط هدار جولدن، الذي صرح جيش الاحتلال وقتها أنهما قُتلا وأن حماس تحتفظ ببعض من أشلاءهما فقط. جاء الكشف عن احتمالية وجود أسرى لدى المقاومة بعد موافقة المحكمة العليا الإسرائيلية على ألتماس قدمته صحيفة "هآرتس" للسماح لها بنشر مواد صحفية تتعلق بأسرى جيش الاحتلال في عملية "الجرف الصامد" حسب الاصطلاح الإسرائيلي، وهو الأمر الذي كان محظور النشر عنه دون موافقة الرقابة العسكرية الإسرائيلية طيلة الشهور الماضية، وبموازاة ذلك فأن مرور عام على العدوان، وبشروع حركات إسرائيلية شعبية مثل "نسوة متشحات بالسواد" وغيرها من الأطر الشعبية التي نُظمت للمطالبة بتعويض عائلات قتلى وجرحى جنود الجيش الإسرائيلي، في تدشين أنشطة احتجاجية لطرح موضوع الأسرى والتعويضات، لم تجد حكومة نتنياهو الجديدة إلا الإقرار بوجود أسرى وجثث لدى المقاومة في غزة، وهو الأمر الذي أُعلن رسمياً من قِبل الحكومة الإسرائيلية قبل ساعات من احتفالية حركة حماس بمرور عام على معركة "العصف المأكول" حسب اصطلاح المقاومة، والذي لمح فيها المتحدث الرسمي بأسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحماس، أبو عبيدة، عن وجود أكثر من أسير لدى الكتائب دون الإفصاح عن أي معلومات بشأنهم، وهو الأمر نفسه الذي كرره مسئولي وقيادات حماس تباعاً طيلة اليوميين الماضيين. قبل التطرق إلى تفاصيل موضوع المفقودين أو الأسرى، يجب التذكير بأنه إبان الأيام الأخيرة للحرب العام الماضي، انتشرت أنباء غير موثقة عن استغلال الكيان الصهيوني للمهاجرين الأفارقة بتوظيفهم تحت بند التطوع في مناطق الحرب لتقديم خدمات الإعاشة للمقاتلين، مقابل وعود بدوام الإقامة والعمل والجنسية الإسرائيلية، وهو ما تسبب وقت الحرب الأخيرة في تضارب أرقام قتلى ومصابين جيش الاحتلال، خاصة في ظل الرقابة العسكرية على الإعلام ومنع نشر تفاصيل أو أرقام خاصة بالقتلة أو الجرحى، ولذلك الأمر عدة دلائل عامة منها على سبيل المثال لا الحصر عنصرية الكيان الذي يتباهى قادته زوراً بأنه واحة للتسامح والديمقراطية وسط منطقة تعجّ بالصراعات الطائفية والعرقية، كذلك يعطي ملمح قوي عن الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل، ومدى جنوحها نحو اليمين بعنصرية أكثر خاصة مع تصاعد مظاهر الاضطهاد العنصري ضد المهاجرين الأفارقة والمستوطنين من أصل أفريقي طيلة الأعوام الماضية، وإنكار حكومة نتنياهو السابقة والحالية أي تفرقة عنصرية تجاههم، وأخر ذلك إنكار وجود أي أسرى لدى المقاومة في غزة لمجرد أن أحدهم من أصل أثيوبي والأخر مرجح أن يكون بدوي من صحراء النقب، والاكتفاء بتسليط الضوء على آرون وجولدن سواء كانوا أحيا أو أمواتاً، طالما ليسوا من ذوي البشرة السمراء، وأنهم يحظوا بأهمية لدى شرائح مؤثرة داخل المجتمع الإسرائيلي، وبحسب ما جاء في وسائل إعلام إسرائيلية، فأنه ليس فقط حظر النشر ما تسبب في التعتيم حول الأسرى والمفقودين، أنما أيضاً سلوك حكومة نتنياهو السابقة والحالية، التي بحسب ذوي أحد المفقودين لم تكلف نفسها ببحث طلبات الاستعلام عن مصيره ولم تتصل بأهله وكذلك منعت الصحافة من التطرق للأمر من الأساس. لكن ما حدث من جانب "هآرتس" وغيرها، أجبر الحكومة الإسرائيلية على كشف الأمر وإخراجه إلى العلانية، ففي السابع من الشهر الجاري أعلن المنسق العام للحكومة الإسرائيلية، يؤاف موردخاي، أن حركة حماس تحتجز إسرائيليين أثنين على قيد الحياة، أحدهم يدعى إبرام منجستو(29) عام، من أصل أثيوبي من سكان مستوطنة أشكلون، وأنه عبر إلى قطاع غزة بعد انتهاء عملية الجرف الصامد، دون الإشارة عن ارتباطه بالجيش الإسرائيلي، كذلك تحفظ موردخاي عن الإدلاء بأي معلومات بشأن الأسير الثاني. وأتت تصريحات الأخير بعد أيام من السماح بنشر معلومات حول منجستو وملف الأسرى والمصابين ككل في الصحافة الإسرائيلية، وفي اليوم التالي أكدت تصريحات وخطب قادة حماس وعلى رأسهم رئيس المكتب السياسي، خالد مشعل، على حقيقة مسألة الأسرى، حيث صرح مشعل أن إسرائيل ومن خلال وسيط أوربي، قد طلبت معلومات عن أسيرين وجثتين يُعتقد أنهم في حوزة المقاومة، وعقب مشعل وكذلك عدد من قادة الحركة السياسيين والعسكريين أنه لا معلومات تؤكد أو تنفي وجود أسرى أو جثث أو أسماءهم أو أي تفاصيل أخرى قبل أن تفرج إسرائيل عن محرري صفقة شاليط، الذين اعتقلتهم إسرائيل مرة أخرى خلال السنوات الأربعة الماضية. وطبقاً لما سبق، فأن الدافع الأساسي وراء تفجير قضية المفقودين الأن ليس مسار الصراع مع المقاومة في غزة، وليس مسار مفاوضات التهدئة، بل الدافع الرئيسي يكمن في التجاذبات الداخلية المتراكمة في إسرائيل، والتي تفاقمت مؤخراً فيما يخص المهاجرين والمستوطنين من أصل أفريقي، وأخر ذلك التصادمات التي شهدتها مدن إسرائيلية قبل شهور بين الشرطة ومتظاهرين من أصل أفريقي نتيجة المعاملة السيئة وسياسات التميز التي يمارسها المجتمع الإسرائيلي وحكومته، وخاصة الحكومة الجديدة المكونة من تكتلات لأحزاب يمينية متطرفة بتنويعاتها، دينية أو قومية، تلاقوا جميعاً حول مبدأ يهودية الدولة والتأكد من كون المهاجرين الجدد إلى إسرائيل يهوداً قبل أن تشملهم "واحة الديمقراطية" بالرعاية والمواطنة. وفي هذا السياق يحسب لحركة حماس استثمار هذا التناقض الداخلي في الكيان لصالحها، بإبرازه عشية وأثناء الذكرى الأولى للحرب، وبالتالي خلق فرصة لإحراز نصر معنوي وسياسي حال تنفيذ صفقة تبادل خلال السنوات المعدودة القادمة، ستكون بلا شك أكبر حجماً وتأثيراً من صفقة شاليط، وذلك في مسار منفصل عن مسار التهدئة بوساطة مصرية، والتي تنتابها عدد من العثرات والعقبات، مع الجانب الإسرائيلي فقط، بعد تسوية الموقف بين حماس والحكومة المصرية فيما يخص الموقف من 30 يونيو والأمن في سيناء. أيضاً كشفت قضية المفقودين والإعلان عنها بهذه الطريق عدد من التناقضات داخل الطبقة الحاكمة في إسرائيل، سواء من ناحية شمول التعمية حتى على مسئولين ووزراء في حكومة نتنياهو السابقة والحالية، أو سواء من موقف تكتلات الحكومة الائتلافية الحالية يمينية الطابع، التي ترفض جُل الأحزاب المكونة لها مبدأ التفاوض بالأساس مع الفلسطينيين وتشكلت الحكومة على ضوء شعارات يهودية الدولة ورفض حل الدولتين وما إلى ذلك من الشعارات الصهيونية، فماذا عن التفاوض مع حركة "إرهابية" من أجل الإفراج عن أسرى مشكوك في هويتهم الدينية، وينتمون لأعراق تصنف درجة ثانية في الفسيفساء المجتمع الإسرائيلي. وقبل كل هذا وذاك فأن الموقف حالياً يشي بأن نتنياهو وطاقمه الأمني فضلوا إخفاء مسألة المفقودين والتعمية عليها بسبب الانتخابات الأخيرة التي فاز بها نتنياهو بصعوبة وشكل ائتلاف حكومي هش، وهي المسألة التي كان من شأنها أن تضعف موقف الأخير، الذي بنى جزء كبير من نجاحه ودعايته على "انتصار" وهمي في الحرب الأخيرة، وبالتالي فأن مسألة وجود أسرى لدى حماس، سيفرج عنهم بمقابل أكبر من صفقة شاليط التي انتقدها الكثير من أحزاب وشخصيات الحكومة الحالية، فأن انتصار نتنياهو المزعوم يتحول بالتدريج إلى هزيمة، خاصة وأن الحرب الأخيرة لم يُعلن لها أهداف محددة ولم تحقق سوى نصر دعائي، باختصار: بعد الكشف عن مسألة وجود أسرى أحياء لدى المقاومة في غزة فأن الحرب الغير ضرورية التي شنت العام الماضي، لم تجلب سوى خسائر سياسية لإسرائيل، وهو ما حدا بوزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، بالتصريح أن "لا تفاوض مع حماس بشأن المفقودين"، لأن تكرار ما حدث في صفقة شاليط أو صفقة التبادل مع حزب الله قبلها، يعني انتصار جديد للمقاومة، ومعارضة هاتان الصفقتان وقتها رفعوا أسهم الأحزاب الإسرائيلية التي تبدلت مواقعها حالياً من المعارضة إلى السلطة.