عاش الشعب المصري وتعايش مع السلطة طوال تاريخه الطويل , سواء كانت سلطة وطنية أو محتلة ، فالمصري الذي عاش حياته في ظل دولة مركزية عميقة، لم يعترف قط بقانون أو مؤسسات , فقط هو يحاول الإستفادة منها أو تجنب مضارها , و كانت كافة مظاهر السلطة كالضرائب و التجنيد و قوانين المرور و غيرها، مجرد مصائب تقع على رأسه عليه أن يتجنبها كلما أمكن . في ظل نظام مبارك الفاسد، الذي تزامن مع تقدم تكنولوجي كبير أضعف قدرة الدولة على متابعة كل ما يحدث، سواء في الواقع أو في الواقع الإفتراضي، ظهرمثلاً الإرهابي الهاوي الذي يصنع قنبلة عبر الشبكة العنكابوتية , ليفجر نفسه دون التبعية لتنظيم معروف. و السلطة ببساطة هي التحكم في المجتمع خصوصاً الجوانب المادية فيه , و السلطة لا تتحقق إلا بالاقتناع , فإيمان الناس بوجود السلطة هو ما يجعلهم يخضعون لها و يطيعون أوامرها , و قوانينها , بغض النظر عن مصدر السلطة , فالغربي يؤمن أنه و أبناء مجتمعه هم مصدر كل سلطة , أما الشرقي فالسلطة عنده قدر يسقط على رأسه دون رغبة أو اختيار. و ايمان المصري بالسلطة هو ما جعله يقبل بسلطة مبارك 30 سنه , و يخضع لتلك السلطة بشكل كامل , بل إن خضوع المصريين لتلك السلطة جعل مبارك و العصابة التي تحكم من ورائه يوقنون حقاً أنهم أصحاب سلطة و تأثير , فاستأثروا بالسلطة و الثروة معاً، لكن في ختام ال30 سنه السوداء شاخت تلك السلطة تماماً و أصبحت مجرد شكل مجرد من المحتوى و مجرد قلعة كرتونية مرعبة , لكن بلا فاعلية , أصبحت العصابة شائخة لدرجة العمى عن قراءة معطيات الواقع ' فلم تحتج لأكثر من نفخة لتتفكك و تسقط , وكان هؤلاء الحمقى لا يدرون أن نقاشات تدور في العالم كله حينها لمناقشة ما بعد مبارك . ولما قامت ثورة 25 يناير انهارت السلطة بكافة أشكالها و سادت الفوضى , و غابت الدولة , و أدرك البعض ان الطريق مفتوح فهاجموا اَلات الصراف الاًلي لسرقة الأموال , واستولى البعض على مساكن خالية , و أنتشرت جرائم السرقة بالإكراه و سواها , فقام البعض بتشكيل ما سمي باللجان الشعبية لحماية أنفسهم , و التي هي شكل من أشكال السلطة البسيطة , تلك اللجان التي اخترقها البلطجية و تحولت مع الوقت لسلطة فاسدة و غير مقبولة , حتى تحللت وحدها. حاول المجلس العسكري استعادة كافة أشكال السلطة دون جدوى , في ظل اضطراره لإرضاء القوى الداخلية , و إسكات الضغوط الخارجية , فسلم السلطة للإخوان. تولى مرسي الرئاسة دون اقتناع حقيقي من أحد أنه يصلح للرئاسة , بل أنني أكاد أجزم أن الإخوان ذات انفسهم لم يقتنعوا به , لم يصدق أحد أن هذا الرجل يرأس مصر , لكنه كان على رأس سلطة مصر –شكلياً على الأقل- و انقسمت فترة حكمه على قصرها لثلاث مراحل . فترة مشاركة السلطة مع طنطاوي و التي انتهت بالإطاحة بالأخير بمباركة أمريكا , و فترة محاولة ركوب الدولة العميقة والعمل على تشغيلها لصالح الإخوان , فحاولوا تشغيل الشرطة و الوزارات لمصالحهم , و انتهت تلك الحقبة بإيقانهم بصعوبة تحقيق هذا , و ذلك بعد معركة الإتحادية , فكانت المرحلة الأخطر وهي محاولاتهم لخلق مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة , فحاولوا خلق شرطتهم و مخابراتهم و قضائهم , تلك المحاولات التي انتهت ب30 يونيو , حيث أطاحت الدولة العميقة بحلمهم . الأخطر في الأمر و على الرغم من كل الجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة لاستعادة السلطة و إقناع المجتمع أنه توجد سلطة باطشة , إلا أن شيء ما انكسر في نفس المصري المعاصر , الذي ذاق لأول مرة انكسار السلطة و غيابها , ورآها لأول مرة عارية ضعيفة تستغيث و تترجى , و رأى جلاديها يخلعون ملابسهم و يفرون لبيوتهم تاركين أقسامهم و سلاحهم للغوغاء, رأى نفسه سيداً مهابهاً ولو لأيام قليلة, لكننا لم ننجح في استثمار الفرصة , و عجزنا عن تحويل حلمنالواقع , ووقفنا في منتصف الطريق فلا نحن قضينا على الدولة العميقة , و لا نحن مكثنا في ظل السلطة الباطشة , التي على الرغم من فتوتها و شبابها –مقارنة بشيخوخة نظام مبارك و طنطاوي- كانت لم تزل عاجزة عن استعادة السلطة بكافة أشكالها المادية و المعنوية . فهل تنجح الدولة اليوم في استعادة النظام و الإنضباط لتخلق الأمل في واقع أفضل , أم نسقط في بئر الفوضى.