يبدو مثيرًا للدهشة، هذا التقدم المضطرد للدراما التركية، في مواجهة نظيرتها المصرية/ العربية، وغيرها في محيط جيران أنقرة. بينما نتأهب، كالعادة، لسباق تكسير العظام في دراما رمضان، بين أكثر من 20 مسلسلًا من إنتاج مصري فقط، مع قدر كبير من الاستثمارات فيها واجتذابها مخرجين متميزين جاءوا للتليفزيون بروح السينما، بفرق عمل مجددة في الصورة والمضمون، لتفرز أسماء لامعة من مخرجين وكتاب سيناريو وفناني ديكور، ونجوم شباب. شهدنا مؤخرًا تجارب أفرزت ثراءً فنيًا وأعطت فرصة لمواهب عديدة كما أفرزت تيارات من الدراما الصعيدية، البوليسية، الكوميدية، وأعمال متميزة، تعيد قراءة تاريخنا الاجتماعي المعاصر، ومع منافستها للسينما خاصة مع انحسار دورها كأحد أهم عناصر القوة الناعمة لمصر، تظل الدراما التركية مكتسحة للفضائيات العربية، منذ عدة سنوات، لتخدم، وإن بشكل غير مباشر، على توجهات السياسة والإقتصاد التركي، بلعبها على أوتار الحنين للماضي، ومحاولة إعادة إيجاد رابط بين تركيا الحديثة والعالم العربي، وطرح النموذج التركي كوصفة للتحديث الليبرالي في مجتمعات إسلامية. هكذا، شاهدنا في سينما زاوية، فيلمًا وثائقيًا طويلًا بعنوان "قسمت"، يناقش كيف غيرت الدراما التركية العالم، وكيف صارت أحد أهم عناصر القوة الناعمة التركية، الفيلم إخراج اليونانية نينا ماريا باشاليدو، وشاركت قناة الجزيرة في إنتاجه. يجوب الفيلم مواقع تصوير أشهر المسلسلات التركية ويلتقي عددًا من نجومها ويتنقل بين اسطنبول، القاهرة، بيروت، أبوظبي، اليونان، دول البلقان.. ودول أوربية أخرى، يرصد كيف أثرت المسلسلات في جمهور هذه الدول، خاصة من النساء، وكيف خلقت عالمًا من الرومانسية تلهفت عليها نساء العرب والشرق الأوسط ودول البلقان، منها "نور" الذي أحدث أثرا كبيرًا في قطاعات واسعة من النساء العربيات، بسبب طريقة تعامل البطل مهند مع حبيبته، ما فجر مشاعر الرومانسية وتطلع النساء إلى أنماط مختلفة من العلاقة مع أزواجهن وأثير حينها أقاويل كثيرة عن حالات طلاق بسببه، ويناقش الفيلم كيف غيرت المسلسلات حياة بعض مشاهداتها داخل وخارج تركيا خاصة المسلسلات التي تناولت قضايا المرأة. تحكي سيدة إماراتية كيف قررت الانفصال عن حياة زوجية معذبة وزوج يضربها ويهينها، متشجعة بطاقة نفسية من متابعة بطلاتها في المسلسلات التركية، وفي المقابل عرض الفيلم لرأي أحد الشيوخ من الخليج يحرم المسلسلات ويلوم الرجال على السماح لأهلهم بمشاهدتها معتبرها مفسدة للمجتمع العربي. في القاهرة يرصد الفيلم تجربة الناشطة سميرة إبراهيم التي واجهت كشوف العذرية وأصرت على رفع قضية ضد ضباط الجيش الذين أجبروها عليها مع مجموعة ناشطات في المظاهرات بعد ثورة يناير كأحد أشكال التنكيل بالمتظاهرات. ورغم تقديم نماذج لنساء عربيات قويات استطعن اتخاذ قرارات جريئة، إلا أن المرأة العربية عمومًا في باقي المشهد الأوسع الذي يعرضه الفيلم، وتسيطر فيه مشاهد التحرش ونساء يرتدين النقاب بدت كما لو كانت تابعة للمرأة التركية، التي تمثل لها النموذج والقائد. وتتوالي مناقشة تأثير الدراما في قضية مثل التحرش الجنسي ليس فقط خارجيًا، ولكن داخل تركيا كذلك في مسلسل "فاطمة"، الذي احتشدت دعما له الجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة، شارك أعضائها في مساندة قضية المسلسل وهي إصرار بطلته، التي تعرضت للاغتصاب على الدفاع عن حقها والاقتصاص من الجناة، وفي تصوير مشهد المحاكمة تجمع أنصارهم أمام المحكمة فيما يشبه مظاهرة حقيقية. يتعرض الفيلم لقضية اجتماعية أخرى، مسكوت عنها أيضا في مجتمعاتنا العربية رغم ما تسببه من جرائم، وهي زواج القصر في مسلسل "حياة"، الذي يعرض تجربة حقيقية لسيدة تركية أجبرت على الزواج من رجل عجوز يعاملها بعنف، وتحكي تجربتها التي تشابه ما جسدته بطلة المسلسل وصولًا إلى قرارها بالانفصال والتصدي لتربية الأبناء وحدها. هذا التماهي مع الشخصية البطلة، أو للدقة صدق الشخصيات والدراما في التعبير عن تجارب حقيقية لا يقتصر على تركيا أو العالم العربي، يرصد الفيلم، في المجر، فتاة تجد قصة حياتها مجسدة في إحدى بطلات المسلسلات ونشاهد نساء يجدن إنعكاسا لحياتهن وأحلامهن في متابعة مسلسل "ألف ليلة وليلة". يصور الفيلم كيف توجهت فتيات يونانيات إلى تعلم التركية لمزيد من الاستمتاع بمتابعة مسلسلاتهن المفضلة. في المقابل يصور في اليونان احتجاجات أمام محطات التلفزيون التي تبث المسلسلات التركية، يحملن شعارات "لن ننسي" في إشارة إلى جرائم تركيا في حق اليونانيين والأكراد، بين اليونان وتركيا صراع تاريخي تحكمه حاليًا ما يعرف بدبلوماسية الزلزال، لذا تلعب المسلسلات التركية دور كبير في الوصول للناس للتذكير بالعلاقات المتداخلة بين الشعبين بما فيها من علاقات تزاوج تمتد إلى أجيال وبالإرث الحضاري والثقافي المشترك، لكنها في تناولها لفترات الصراع في المسلسلات التاريخية تتجاهل ما قامت به تركيا من جرائم لا تسقط بالتقادم في حق هذه الشعوب. وفيما يرجع الأتراك، المشاركون في الفيلم، سبب التأثير الكبير لمسلسلاتهم في شعوب الدول المحيطة بهم إلى تشابه الأوضاع الاجتماعية والإرث الثقافي بينهم وبين جيرانهم، وبالتالي تشابه الكثير من القضايا التي تعاني منها تلك المجتمعات خاصة مع صعود جيل من كاتبات الدراما التركية ركزن على قضايا المرأة في أعمالهن. كما أشار الفيلم إلى الانتقادات التي توجه للمسلسلات داخل تركيا وإلى تحدي واجهته الدراما التاريخية التركية بتناول رموز الدولة التركية في علاقات غرامية، فتصوير السلطان سليمان في دور عاشق، أثار حفيظة كثيرين، لكن الأهم أن المسلسلات رغم جاذبيتها لا تعبر عن واقع المجتمع التركي فغالبية نساؤه محجبات على خلاف الصور المكررة لبطلات المسلسلات، وتركز الدراما على الطبقات الاجتماعية الأكثر ثراءً، فيما تتجاهل الطبقات الأخرى والثقافات المختلفة، وإن كانت بالفعل نجحت في تقديم خريطة سياحية على الشاشة لتركيا، بل تحولت بعض مواقع تصوير المسلسلات إلى مواقع جذب سياحي لمشاهدين يرغبون في مشاهدة مواقع تصوير مسلسلاتهم المفضلة.